ــــــــــــ السلام على الشيب الخضيب ... السلام على الخد التريب ... السلام على البدن السليب ... السلام على الثغر المقروع بالقضيب ... السلام على الرأس المرفوع ... السلام على الأجسام العارية في الفلوات ... السلام على المرمّل بالدماء ... السلام على المهتوك الخباء ... السلام على خامس أصحاب الكساء ... السلام على غريب الغرباه ... السلام على شهيد الشهداء ... السلام على قتيل الأدعياء ... السلام على ساكن كربلاء ... السلام على من بكته ملائكة السماء >>> يا حسين يا حسين ياحسين يا عطشان يا عطشان ياعطشان ......... إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنعمتك ، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك إلهي ان طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما انا مؤمل غير غفرانك ، ولا انا براج غير رضوانك إلهي افكر في عفوك فتهون علي خطيئتي ثم اذكر العظيم من اخذك فتعظم علي بليتي ، ...................آه إن انا قرأت في الصحف سيئة انا ناسيها وانت محصيها فتقول خذوه فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته ، ويرحمه الملا اذا اذن فيه بالنداء ، ....................آه .. من نار تنضج الاكباد والكلى ...................آه .. من نار نزاعة للشوى ................آه .. من غمرة من ملهبات لظى

الاثنين، 25 أكتوبر 2010

وصية الإمام الكاظم لهشان بن الحكم

وصية الكاظم (ع) لهشام بن الحكم وصفته للعقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا هشام !.. إنّ لقمان قال لابنه : تواضع للحق تكن أعقل الناس ، يا بني !.. إنّ الدنيا بحرٌ عميقٌ قد غرق فيه عالمٌ كثيرٌ ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وجسرها الإيمان ، وشراعها التوكل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر ....
يا هشام !.. لو كان في يدك جوزةٌ وقال الناس : لؤلؤةٌ ، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزةٌ ، ولو كان في يدك لؤلؤةٌ وقال الناس : أنّها جوزةٌ ، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤةٌ !....
يا هشام !.. مَن سلّط ثلاثاّ على ثلاث ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله : مَن أظلم نور فكره بطول أمله ، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه .
يا هشام !.. كيف يزكو عند الله عملك ؟.. وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربّك ، وأطعت هواك على غلبة عقلك .
يا هشام !.. الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل ، فمَن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند ربّه ، وكان أنسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزّه في غير عشيرة ....
يا هشام !.. إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك ، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيءٌ من الدنيا يغنيك.
يا هشام !.. إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا ، فكيف الذنوب ؟.. وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض....
يا هشام !.. لاتمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
يا هشام !.. كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا....
يا هشام !.. رحم الله مَن استحيا من الله حق الحياء : فحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وذكر الموت والبلى ، وعلم أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات....
يا هشام !.. اصلح أيامك الذي هو أمامك ، فانظر أي يوم هو ؟.. وأعد له الجواب فإنك موقوفٌ ومسؤولٌ ، وخذ موعظتك من الدهر وأهله ، فإنّ الدهر طويلةٌ قصيرةٌ ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك ، واعقل عن الله ، وانظر في تصرف الدهر وأحواله ، فإنّ ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها فاعتبر بها .
وقال علي بن الحسين (ع) : إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها ، عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ، ثم قال : أو لا حرٌّ يدع هذه اللماظة ( أي البقية القليلة ) لأهلها ؟.. يعني الدنيا ، فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس.
يا هشام !.. إنّ كل الناس يبصر النجوم ، ولكن لا يهتدي بها إلا مَن يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
يا هشام !.. إنّ المسيح (ع) قال للحواريين : يا عبيد السوء !.. يهوّلكم طول النخلة وتذكرون شوكها ومؤنة مراقيها ، وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها ، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده ، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها .
يا عبيد السوء !.. نقّوا القمح وطيّبوه ، وادقّوا طحنه تجدوا طعمه ، ويهنّئكم أكله ، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته ، وينفعكم غبّه .
بحق أقول لكم : لو وجدتم سراجا يتوقّد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه ، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها .
يا عبيد الدنيا !.. بحق أقول لكم : لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون ، فلا تنظروا بالتوبة غدا ، فإنّ دون غد يوماً وليلةً ، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح .
بحق أقول لكم : إنّ مَن ليس عليه دَين من الناس أروح وأقلّ هماً ممن عليه الدين وإن أحسن القضاء ، وكذلك مَن لم يعمل الخطيئة أروح وأقلّ هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب ، وإنّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم ، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم .
بحق أقول لكم : إنّ الناس في الحكمة رجلان : فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقها بفعله ، ورجلٌ أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله ، فشتان بينهما ، فطوبى للعلماء بالفعل ، وويلٌ للعلماء بالقول .
يا عبيد السوء !.. اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم ، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات ، إنَّ أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا ، وإنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا .
يا عبيد السوء !.. لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة ، ولا بالثعالب الخادعة ، ولا بالذئاب الغادرة ، ولا بالأُسد العاتية ، كما تفعل بالفراس كذلك تفعلون بالناس فريقا تخطفون ، وفريقا تخدعون ، وفريقا تقدرون بهم .
بحق أقول لكم : لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم ، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة ، ولا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدروكم .
يا عبيد الدنيا !.. إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه .
يا بني إسرائيل !.. زاحموا العلماء في مجالسهم ولوجثْواً على الركب ، فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.
يا هشام !.. مكتوبٌ في الإنجيل : طوبى للمتراحمين !.. أولئك هم المرحومون يوم القيامة ، طوبى للمصلحين بين الناس !.. أولئك هم المقرّبون يوم القيامة ، طوبى للمطهّرة قلوبهم !.. أولئك هم المتّقون يوم القيامة ، طوبى للمتواضعين في الدنيا !.. أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة....
يا هشام !.. تعلّم من العلم ما جهلت ، وعلّم الجاهل مما علمت ، وعظّم العالم لعلمه ودع منازعته ، وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.
يا هشام !.. إنّ كلّ نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيّئة تؤاخذ بها ، وقال أمير المؤمنين (ع) : إنّ لله عبادا كسرت قلوبهم خشيته ، وأسكتتهم عن النطق وإنهم لفصحاء عقلاء ، يستبقون إلى الله بالأعمال الزكية ، لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له من أنفسهم بالقليل ، يرون في أنفسهم أنهم أشرار ، وإنهم لأكياس وأبرار....
يا هشام !.. المتكلمون ثلاثة : فرابحٌ ، وسالمٌ ، وشاجبٌ :فأما الرابح فالذاكر لله ، وأما السالم فالساكت ، وأما الشاجب ( أي الهالك ) فالذي يخوض في الباطل ، إنّ الله حرّم الجنة على كلّ فاحشٍ بذيّ قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه ، وكان أبو ذر - رضي الله عنه - يقول : يا مبتغي العلم !.. إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرّ ، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك....
يا هشام !.. قال الله جلّ وعزّ : وعزتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوي في مكاني ، لا يؤثر عبدٌ هواي على هواه إلا جعلت الغنى في نفسه ، وهمّه في آخرته ، وكففت عليه ضيعته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر....
يا هشام !.. إنّ مَثَل الدنيا مَثَل الحية : مسها لين ، وفي جوفها السمّ القاتل ، يحذرها الرجال ذووا العقول ، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.
يا هشام !.. اصبر على طاعة الله ، واصبر عن معاصي الله ، فإنما الدنيا ساعةٌ فما مضى منها فليس تجد له سرورا ولا حزناً ، وما لم يأت منها فليس تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها ، فكأنك قد اغتبطت ( أي إن صبرت فعن قريب تصير مغبوطاً في الأخرة ).
يا هشام !.. مَثَل الدنيا مَثَل ماء البحر ، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله....
يا هشام !.. ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسناً استزاد منه ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه.
يا هشام !.. تمثلت الدنيا للمسيح (ع) في صورة امرأة زرقاء ، فقال لها : كم تزوجت ؟.. فقالت : كثيراً ، قال : فكلٌّ طلقّك ؟.. قالت : لا ، بل كلاًّ قتلت !.. قال المسيح : فويح أزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين ؟....
يا هشام !.. إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا ، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار ، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبّر من آلة الجهل ، ألم تعلم أنّ مَن شمخ إلى السقف برأسه شجّه ؟.. ومَن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه ( أي حفظه ) ؟.. فكذلك مَن لم يتواضع لله خفضه الله ، ومَن تواضع لله رفعه.
يا هشام !.. ما أقبح الفقر بعد الغنى ، وأقبح الخطيئة بعد النسك ، وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته....
يا هشام !..قال رسول الله (ص) : إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقّى الحكمة ، والمؤمن قليل الكلام كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.
يا هشام !.. أوحى الله إلى داود : قل لعبادي : لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطّاع الطريق من عبادي ، إن أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم....
يا هشام !.. أوحى الله إلى داود : حذّر وأنذر أصحابك عن حبّ الشهوات ، فإنّ المعلّقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبةٌ عني.
يا هشام !.. إياك والكبر على أوليائي ، والإستطالة بعلمك فيمقتك الله ، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك ، وكن في الدنيا كساكن الدار ليست له ، إنما ينتظر الرحيل....
يا هشام !.. إياك ومخالطة الناس والأنس بهم ، إلا أن تجد منهم عاقلاً مأموناً فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية .
وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحيي من الله ، إذ تفرّد له بالنعم أن يشارك في عمله أحداً غيره ، وإذا حزبك أمران لا تدري أيهما خيرٌ وأصوب ، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه ، فإنّ كثير الثواب في مخالفة هواك ، وإياك أن تغلب الحكمة وتضعها في الجهالة .
قال هشام : فقلت له : فإن وجدت رجلاً طالباً غير أنّ عقله لا يتسع لضبط ما ألقي إليه ؟.. قال : فتلطّف له في النصيحة ، فإن ضاق قلبه فلا تعرضنّ نفسك للفتنة .
واحذر ردّ المتكبرين ، فإنّ العلم يدل على أن يحمل على من لا يفيق ، قلت : فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها ؟.. قال فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم فتنة القول وعظيم فتنة الرد .
واعلم أنّ الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده ، ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ، ولكن آمنهم بقدر كرمه وجوده ، ولم يفرّح المحزونين بقدر حزنهم ، ولكن فرّحهم بقدر رأفته ورحمته ، فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودّد إلى مَن يؤذيه بأوليائه ؟..
فكيف بمَن يُؤذى فيه ؟.. وما ظنك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على مَن يعاديه ؟.. فكيف بمَن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه.
يا هشام !.. مَن أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه ، وما أُوتي عبدٌ علماً فازداد للدنيا حباً إلا ازداد من الله بعداً ، وازداد الله عليه غضباً.
يا هشام !.. إنّ العاقل اللبيب مَن ترك ما لا طاقة له به ، وأكثر الصواب في خلاف الهوى .. ومَن طال أمله ساء عمله....
قال هشام : فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة ؟.. قال (ع) :
أقربهم إليك ، وأعداهم لك ، وأضرهم بك ، وأعظمهم لك عداوة ، وأخفاهم لك شخصاً مع دنوه منك ، ومن يحرّض أعداءك عليك ، وهو إبليس الموكّل بوسواس القلوب ، فله فلتشدّ عداوتك ، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدتك لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته ، فإنه أضعف منك ركناً في قوته ، وأقلّ منك ضرراً في كثرة شره إذا أنت اعتصمت بالله ، ومَن اعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم....
يا هشام !.. احذر هذه الدنيا واحذر أهلها فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف : رجلٌ متردّ معانقٌ لهواه .. ومتعلّمٌ متقرّئٌ ، كلما ازداد علماً ازداد كبراً ، يستعلن بقراءته وعلمه على مَن هو دونه .. وعابدٌ جاهلٌ يستصغر مَن هو دونه في عبادته ، يحب أن يُعظَّم ويُوقَّر .. وذو بصيرةٍ عالمٌ عارفٌ بطريق الحقّ يحب القيام به فهو عاجزٌ أو مغلوبٌ ، ولا يقدر على القيام بما يعرف ، فهو محزونٌ مغمومٌ بذلك ، فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلا....

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

ولادة الإمام الرضا عليه السلام



ولادة الإمام علي الرضا(عليه السلام)


اسمه ونسبه(عليه السلام)

الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

كنيته(عليه السلام)

أبو الحسن، أبو علي... .

ألقابه(عليه السلام)

الرضا، الصابر، الرضي، الوفي، الفاضل... وأشهرها الرضا.

تاريخ ولادته(عليه السلام) ومكانها

11 ذو القعدة 148ﻫ، المدينة المنوّرة.

أُمّه(عليه السلام) وزوجته

أُمّه السيّدة تكتم، وهي جارية، وزوجته السيّدة سُكينة المرسية، وقيل: الخَيزران أُمّ الإمام محمّد الجواد(عليه السلام)، وهي أيضاً جارية.

مدّة عمره(عليه السلام) وإمامته

عمره 55 سنة، وإمامته 20 سنة.

حكّام عصره(عليه السلام) في سني إمامته

هارون الرشيد، محمّد الأمين ابن هارون الرشيد، عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد.

المراسيم الشرعية

أخذ الإمام الكاظم(عليه السلام) وليده المبارك وقد لُفّ في خرقة بيضاء، وأجرى عليه المراسيم الشرعية، فأذّن في أُذنِه اليمنى وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفُرات فحنّكه به، ثمّ ردّه إلى أُمّه، وقال(عليه السلام) لها: «خُذِيه، فَإِنّهُ بَقِيةَ اللهِ فِي أرضِهِ»

سيرته(عليه السلام)

روي في كتب السيرة عن سيرته المباركة الشيء الكثير، فمنها أنّه ما جفا أحداً بكلام قطّ، ولا قطع على أحدٍ كلامه حتّى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجةٍ قدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليسٍ له قطّ، ولم يسمع منه أحد في يومٍ ما أنّه شتم أحداً من مواليه أو مماليكه.

كان ضحكه التبسّم، وإذا جلس عند المائدة أجلس مواليه ومماليكه معه، حتّى البوّاب معه والسائس، وكان قليل النوم كثير العبادة، كثير الصوم في الأيّام، وكثيراً ما يتصدّق بالسرّ.

علمه(عليه السلام)

فهو وارث علم النبوّة والإمامة، وهو الحافل بالعلم اللدنّي، لذا شهد له موافقوه ومخالفوه بذلك، حتّى أنّ محمّد بن عيسى اليقطيني قال: «لمّا اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، جمعت من مسائله ممّا سُئل عنه وأجاب عنه خمس عشرة ألف مسألة»

جمع الخليفة المأمون يوماً علماء سائر الملل والأديان ليسألوا الإمام(عليه السلام) عمّا استعصى عليهم، فكان منه ما كان من الردّ عليهم وإفحامهم.

تواضعه(عليه السلام)

روي عنه(عليه السلام) أنّه لمّا سافر إلى خراسان دعا ـ وهو في الطريق ـ بمائدةٍ له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقال له بعض أصحابه: جُعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟

فقال(عليه السلام): «مه! إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأُمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال»

كرمه(عليه السلام)

روي في كرمه(عليه السلام) وسخائه الكثير، منها أنّه: مرّ به رجل فقال له: أعطني قدر مروءتك؟ فقال(عليه السلام): «لا يسعني ذلك»، فقال: على قدر مروءتي، قال(عليه السلام): «إذاً فنعم». ثمّ قال: «يا غلام، أعطه مائتي دينار».

من وصاياه(عليه السلام)

1ـ قال(عليه السلام): «إنّ الله عزّ وجلّ يبغض القيل والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»

2ـ قال(عليه السلام): «التودّد إلى الناس نصف العقل».

3ـ قال(عليه السلام): «صديق كلّ امرىءٍ عقله، وعدوّه جهله».

4ـ قال(عليه السلام): «ليس لبخيلٍ راحة، ولا لحسودٍ لذّة، ولا لملولٍ وفاء، ولا لكذوبٍ مروءة»

الخميس، 29 أبريل 2010

أحاديث في مقام الزهراء (ع)


أحاديث في مقام الزهراء ( عليها السلام ) ومنزلتها
عند الله وعند الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )



الاحاديث في هذا الباب كثيرة ، حتى أن عدّةً من علماء الفريقين دوّنوها في كتب مفردة ، وقد انتخبت من تلك الاحاديث هذه الاحاديث التي سأقرؤها ، وسترون أن مصادرها من أقدم المصادر وأهمّها :
________________________________________


الحديث الاول :


« فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة » ، أو « سيّدة نساء هذه الاُمّة » ، أو « سيّدة نساء المؤمنين » ، أو « سيّدة نساء العالمين ».
هذا الحديث بألفاظه المختلفة موجود في : صحيح البخاري
في كتاب بدء الخلق ، وفي مسند أحمد ، وفي الخصائص للنسائي ، وفي مسند أبي داود الطيالسي ، وفي صحيح مسلم في باب فضائل الزهراء ، وفي المستدرك وصحيح الترمذي ، وفي صحيح ابن ماجة ، وغيرها من الكتب
ففاطمة سيّدة نساء العالمين من الاوّلين والاخرين.



الحديث الثاني :


في أن فاطمة سلام الله عليها بضعة من النبي :
« فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني ».
هذا الحديث بهذا اللفظ في : صحيح البخاري ، وعدّة من المصادر.
« فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ».
بهذا اللفظ في : صحيح البخاري ، ومسند أحمد ، وصحيح أبي داود ، وصحيح مسلم ، وغيرها من المصادر.
« إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها ».
بهذا اللفظ في : صحيح مسلم.
« إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها ».
بهذا اللفظ في : مسند أحمد وفي المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وفي صحيح الترمذي.
« فاطمة بضعة منّي يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها ».
بهذا اللفظ في : المسند ، وفي المستدرك وقال : صحيح الاسناد ، وفي مصادر أُخرى.


________________________________________

الحديث الثالث :


« إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها ».
هذا الحديث تجدونه في : المستدرك ، وفي الاصابة ، ويرويه صاحب كنز العمال عن أبي يعلى والطبراني وأبي نعيم ، ورواه غيرهم


________________________________________


الحديث الرابع :


في أنّ النبي أسرّ إليها أنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به.
هذا كان عند وفاته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإنّه دعاها فسارّها فبكت ، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت [ في بعض الالفاظ : فشقّ ذلك على عائشة أن يكون سارّها دونها ] فلمّا قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حلّفتها عائشة أنْ تخبرها ، فقالت : سارّني رسول الله أو سارّني النبي ، فأخبرني أنّه يقبض في وجعه هذا فبكيتُ ، ثمّ سارّني فأخبرني أنّي أوّل أهل بيته أتْبعه فضحكتُ.
هذا الحديث في : الصحيحين ، وعند الترمذي والحاكم ، وغيرهما.

________________________________________



الحديث الخامس :


هذا الحديث تجدونه في : المستدرك وقال : صحيح على عن عائشة قالت : ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها غير أبيها.


شرط الشيخين ، وأقرّه الذهبي ، وفي الاستيعاب ، وفي حلية الاولياء.


الحديث السادس :


عن عائشة أيضاً : كانت إذا دخلت عليه ـ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ قام إليها فقبّلها ورحّب بها وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه.
قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، وأقرّه الذهبي أيضاً.

________________________________________

الحديث السابع :


أخرج الطبراني أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لعلي : « فاطمة أحبّ إليّ منك وأنت أعزّ عليّ منها ».
قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح

الثلاثاء، 27 أبريل 2010

الخطبه الفدكيه

خطبة الزهراء عليها السلام
((ــــــ الــــفـــــــــــدكـــــــــــــــــيه ـــــــ ))

روى عبدالله بنُ الحسن عليه السلام بإسناده عن آبائه عليهم السلام أنَّه لَمّا أجْمَعَ الأول عَلى مَنْعِ فاطمةَ عليها السلام فَدَكَ، وبَلَغَها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله، حَتّى دَخَلَتْ عَلى الأول وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَ غَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها، فَقَالَتْ عليها السلام:

" الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإِْدْراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَى الْخَلايِقِ بِإجْزالِها، وَثَنّى بِالنَّدْبِ إلى أمْثالِها.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِْخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها. الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإَْبْصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَْوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ. اِبْتَدَعَ الأَْشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها إلاّ تَثْبيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وإِعزازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ على طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ، ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ.

وَأَشْهَدُ أنّ أبي مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمّاهُ قَبْلَ أنِ اجْتَبَلَهُ، وَاصْطِفاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ، إذِ الْخَلائِقُ بالغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأَْهاويل مَصُونَةٌ، وَبِنِهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعالى بِمآيِلِ الأُمُور، وَإحاطَةً بِحَوادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ الْمَقْدُورِ. ابْتَعَثَهُ اللهُ تعالى إتْماماً لأمْرِهِ، وَعَزيمَةً على إمْضاءِ حُكْمِهِ، وَإنْفاذاً لِمَقادِير حَتْمِهِ.

فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها. فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ.

ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إليْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاختِيارٍ، ورَغْبَةٍ وَإيثارٍ بمحمد صلى الله عليه وآله عَنْ تَعَبِ هذِهِ الدّارِ في راحةٍ، قَدْ حُفَّ بالمَلائِكَةِ الأبْرارِ، وَرِضْوانِ الرَّبَّ الغَفارِ، ومُجاوَرَةِ المَلِكِ الجَبّارِ. صلى الله على أبي نبيَّهِ وأَمينِهِ عَلى الوَحْيِ، وَصَفِيِّهِ وَخِيَرَتِهِ مِنَ الخَلْقِ وَرَضِيِّهِ، والسَّلامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.

ثُمَّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت: أَنْتُمْ عِبادَ الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ، وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ للهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ. كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْياعُهُ، قائِدٌ إلى الرِّضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النَّجاةِ إسْماعُهُ. بِهِ تُنالُ حُجَجُ اللهِ المُنَوَّرَةُ، وَعَزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، وَمَحارِمُهُ المُحَذَّرَةُ، وَبَيِّناتُهُ الجالِيَةُ، وَبَراهِينُهُ الكافِيَةُ، وَفَضائِلُهُ المَنْدوبَةُ، وَرُخَصُهُ المَوْهُوبَةُ، وَشَرايِعُهُ المَكْتُوبَةُ.

فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ، وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْناً لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ. وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ، {فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَ أطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}.

ثُمَّ قالت: أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْغَلُما أفْعَلُ شَطَطاً: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم} فَإنْ تَعْزُوه وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أبي دُونَ نِسائِكُمْ، وَأخا ابْنِ عَمَّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَ لَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله. فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُتُ الْهامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ، حَتّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأسْفَرَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدّينِ، وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإْخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبيضِ الْخِماصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}.

فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ، {كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ}، أوْنَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً ، مُجِدّاً كادِحاً ـ وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ.

فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ وَسَمَلَ جِلبْابُ الدّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوِينِ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلِين.

فَخَطَرَ فِي عَرَصاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ غَيْرَ اِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، {ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ}.

فَهَيْهاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَى تُؤْفَكُونَ؟ وَكِتابُ اللّه بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظاهِرَةٌ، وَأَحْكامُهُ زاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ باهِرَةٌ، وَزَواجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأوامِرُهُ واضِحَةٌ، قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أرَغَبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُونَ، {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ السْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}. ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا الاّ رَيْثَ أنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها ثُمَّ أَخّذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ الْغَوِيِّ، وَاطْفاءِ أنْوارِالدِّينِ الْجَلِيِّ، وَاهْمادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ارْتِغاءٍ، وَتَمْشُونَ لأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي الْخَمَرِ وَالْضَّراءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلى مِثْلِ حَزِّ الْمُدى، وَوَخْزِ السِّنانِ فِي الحَشا، وَأَنْـتُمْ تزْعُمُونَ ألاّ ارْثَ لَنا، {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أفَلا تَعْلَمُونَ؟ بَلى تَجَلّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضّاحِيَةِ أنِّى ابْنَتُهُ.

أَيُهَا الْمُسْلِمونَ أاُغْلَبُ عَلى ارْثِيَهْ يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أفي كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا}، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، اذْ يَقُولُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}، وَقالَ فيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَي بْنِ زَكَرِيّا عليهما السلام اذْ قالَ رَبِّ {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِياًّ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وَقَالَ: {وَ اُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّه} وَقالَ: {يُوصِكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيْنِ} وقال: {انْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ الْأَقْرَبِبنَ بِالْمعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}، وزَعَمْتُمْ أَلَا حِظوَةَ لِي، وَلا إرْثَ مِنْ أبي لارَحِمَ بَيْنَنَا! أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولًونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، وَلَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟ فَدُونَكَها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً. تَلْقاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَ الزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ ما تَخْسِرُونَ، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدَمُونَ، {وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ}

ثُمَّ رَمَتْ بِطَرْفِها نَحْوَ الْأَنْصارِ فَقالَتْ: يا مَعاشِرَ الْفِتْيَةِ، وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ، وَأنْصارَ الْإِسْلامِ! ما هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي؟ وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي؟ أما كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله أبِي يَقُولُ: ((اَلْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ))؟ سَرْعانَ ما أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذا إهالَةً، وَلَكُمْ طاقَةٌ بِما اُحاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلى ما أَطْلُبُ وَاُزاوِلُ!

أَتَقُولُونَ ماتَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله؟! فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ، وَأَكْدَتِ الْآمالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ، وَاُضيعَ الْحَرِيمُ، وَاُزيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَماتِهِ. فَتِلْكِ وَاللهِ النّازلَةُ الْكُبْرى، وَالْمُصيبَةُ الْعُظْمى، لا مِثْلُها نازِلَةٌ وَلا بائِقَةٌ عاجِلَةٌ أعْلَنَ بِها كِتابُ اللهِ -جَلَّ ثَناؤُهُ- فِي أَفْنِيَتِكُمْ فِي مُمْساكُمْ وَمُصْبَحِكَمْ هِتافاً وَصُراخاً وَتِلاوَةً وَإلحاناً، وَلَقَبْلَهُ ما حَلَّ بِأنْبِياءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، حُكْمٌ فَصْلٌ وَقَضاءٌ حَتْمٌ: {وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإنْ ماتَ أَو قُتِلَ انقلَبْتُمْ على أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرينَ}.

أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أاُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ، وَأنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّجَبَةُ الَّتي انْتُجِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتيرَتْ! قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الاُْمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإْفْكِ، وَخَمَدَتْ نيرانُ الْكُفْرِ، وهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدِّينِ؛ فَأَنّى جُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإْعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإْقْدامِ، وَأشْرَكْتُم ْبَعْدَ الإْيمانِ؟ {ألا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَداؤُكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

أَلا قَدْ أرى أنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إلَى الْخَفْضِ، وَأبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّيقِ بِالسَّعَةِ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعَيْتُمْ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُمْ، {فَإنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأْرْضِ جَمِيعاً فَإنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. ألا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلْتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خامَرَتْكُمْ، وَالغَدْرَةِ التِي اسْتَشْعَرَتْها قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّها فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنا، وَبَثَّةُ الصُّدُورِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ. فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلِبُونَ}، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، {فَاعْمَلُوا إنّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ}

الثلاثاء، 13 أبريل 2010

الدجال

الــــــــــــدجـــــــــــــــــــــــال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روي في (الانوار النعمانية) عن الصدوق باسناده الى رسول الله -صلى الله عليه وآله- قال انه صلى ذات يوم باصحابه الفجر ثم قام باصحابه حتى اتى باب دار بالمدينة فطرق الباب فخرجت اليه امرأة فقالت : ما تريد يا ابا القاسم ؟
فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: يا ام عبد الله استاذني لي على عبد الله
فقالت : يا ابا القاسم وما تصنع بعبد الله ؟ فو الله انه لمجهود في عقله يحدث في ثوبه وانه يراودني على الامر العظيم .
فقال : استاذني عليه .
فقالت : افي ذمتك ؟
قال : نعم .
قالت : ادخل . فدخل فاذا هو في قطيفة له يهيم فيها .
فقالت امه : اسكت واجلس هذا محمد قد اتاك . فسكت وجلس .
فقال النبي -صلى الله عليه وآله- ما لها لعنها الله لو تركتني لاخبرتكم أهو هو
ثم قال النبي -صلى الله عليه وآله-: ما ترى ؟
قال : ارى حقاً وباطلاً وارى عرشاً على الماء .
فقال : اشهد ان لا اله الا الله واني محمد رسول الله .
فقال : بل تشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله . فما جعلك الله بذلك احق مني .
فلما كان في اليوم الثاني صلى باصحابه ثم نهض ونهضوا القوم معه حتى طرق الباب .
فقالت امه : ادخل .
فدخل فاذا هو في نخلة يغرد فيها .
فقالت له امه : اسكت وانزل هذا محمد قد اتاك . فسكت .
فقال النبي -صلى الله عليه وآله- : ما لها لعنها الله لو تركني لاخبرتكم أهو هو ؟؟
فلما كان في اليوم الثالث صلى باصحابه الفجر ثم نهض ونهض القوم معه حتى اتى ذلك المكان فاذا هو في غنم له ينعق بها .
فقالت له امه: اسكت واجلس هذا محمد قد اتاك .
فسكت وقد كانت نزلت في ذلك اليوم آيات من سورة الدخان فقرأها عليهم النبي في صلاة الغداة .
ثم قال : تشهد ان لا اله الا الله واني محمد رسول الله .
قال : بل تشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله وما جعلك بذلك احق مني ؟
فقال النبي -صلى الله عليه وآله- : اني قد خبات لك خباء فما هو ؟
فقال : الدخ ، الدخ .
فقال النبي : اخس انك لن تعدو اجلك ولن تبلغ املك ولن تنال الا ما قدر لك .
ثم قال لاصحابه : ايها الناس ما بعث الله نبياً الا انذر قومه الدجال وان الله عز وجل أخره الى يومكم هذا فما تشابه عليكم من امره فان ربكم ليس باعور انه يخرج على حمار عرض ما بين اذنيه ميل يخرج ومعه جنة ونار وجبل من خبر ونهر من ماء اكثر اتباعه اليهود والنساء والاعراب يدخل آفاق الارض كلها إلا مكة ولابيتها والمدينة ولابيتها .
اقول : روى هذا الحديث في (إكمال الدين وإتمام النعمة) وهو في الدجال وهو الذي يخرج عند قيام صاحب الزمان -عليه السلام- في السنة التي يخرج فيها .
والذي يظهر لي من بعض الاخبار انه يظهر في العاشر من جمادي الاولى والصاحب -عليه السلام- يخرج في العاشر من المحرم فبين خروجه وخروج الحجة -عليه السلام- ثمانية اشهر كما صرح به في الرواية .
وانما مضى اليه النبي -صلى الله عليه وآله- ليقيم عليه الحجة بان يدعوه الى الاسلام والايمان به واحب ان يدخل عليه على الحالة التي يقتضيها طبعه كما هو مذكور في هذا الحديث وغيره قبل ان تخبره امه بدخول النبي -صلى الله عليه وآله- عليه ليعرفه اصحابه بصفته وفعله ليكفروا بدعوته فانه الآن كما في هذه الرواية - يدعي النبوة ثم يدعي الربوبية وانه يخرج عند قيام القائم -عليه السلام- ويدعي الربوبية ويتبعه على دعوته ست عشر مائة الف ويسير في الارض كما في هذا الحديث الى ان يخرج حجة الله القائم -عليه السلام- ويقتله ويقتل جنوده.
فقول النبي -صلى الله عليه وآله- في حق امه: ما لها لعنها الله لو تركتني لاخبرتكم أهو هو ؟؟ لبيان صفته وفعله لهم كما قلنا .
ثم قال النبي -صلى الله عليه وآله-:ما ترى ؟
قال : ارى حقاً وباطلاً وارى عرشاً على الماء .
وكلامه -لعنه الله- هذا يكذب ما ادعته امه -لعنها الله- في حقه انه لمجهود في عقله يحدث في اثوابه يعني مجنون لانه لم يفعل ذلك لعدم التمييز ولكنه قاذورة لا يستنجس نجساً.
وقولها : انه ليراودني على الامر العظيم لا يدل على جنونه لانه يريد ان يفجر بامه لعدم انفته وتحريمه لشيء من المحرمات ولعل قوله: ارى حقاً وباطلاً ... الخ مشعر بقوة شعوره وحيلته فانه بفطرته يرى حقاً عند محمد -صلى الله عليه وآله- وباطلاً عند من خالفه ولكنه أبهَمَ ليدعي ان ما رآه من الحق انه هو المستحق له وان الباطل عند من خالفه إيهاما منه وتلبيساً . ولهذا سمي ( الدجال ) من دجل تدجيلاً غطى وطلى الذهب لتمويهه بالباطل ويقال النفس الامارة المدجلة لاجل ذلك ومن اجل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله-بل تشهد ان لا اله الا الله واني رسول الله فما جعلك الله بذلك احق مني وانما ذكر شهادة ان لا اله الا الله واجاب باني ارى عرشاً على الماء ليخدع النبي -صلى الله عليه وآله- كما هو مقتضى طبيعته من التلبيس كما ان امه الملعونة انما قالت انه لمجهود في عقله ليكف عنه محمد -صلى الله عليه وآله- دعوته .
وقول الراوي وهو ابن عمر في حكايته المرة الثالثة وكانت قد نزلت في ذلك اليوم آيات من سورة الدخان فقرأها اي سورة الدخان لاجل الآيات المذكورة المناسبة لبيان احوال هذا الخبيث بهم اي باصحابه الذين سار معهم الى الخبيث الدجال فقوله : بهم اي حين صلى بهم صلاة الفجر وان الباء
بمعنى مع او المصاحبة .
والظاهر ان الآيات المشار اليها هي المناسبة لبيان حال الدجال ومآل امره وهي قوله تعالى:{ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب اليم ربنا اكشف عنا العذاب -يعني تعجيل الفرج- إنا مؤمنون} وهي علامات قيام القائم -عليه السلام- وهو الذي خبأه رسول الله -صلى الله عليه وآله- لهلاك هذا الدجال المدلول عليه بهذه الآيات حين عارض هذا الملعون رسول الله -صلى الله عليه وآله- بدعوى النبوة فقال -صلى الله عليه وآله- له : اني خبأت لك خباء اي دفنت لك دفيناً وسترت لك مستوراً وخبأ بمعنى ستر فما هو يعني ان كنت تدعي انك رسول الله فاخبرني ما الذي ادخرت لك مما يسؤك ويبطل دعواك .
فاجابه اللعين بالكلام الفحش ليخجل النبي -صلى الله عليه وآله- فينقطع عن جوابه فقال الدخ الدخ والدخ بالمهملتين الدس والنكاح والدع في القفا كناية عن اللواط ، ولن تنال الا ما قدر لك فاخبره -صلى الله عليه وآله- ان اجلك على يد قائمنا اهل البيت حين تدعي الربوبية ولن تبلغ املك من البقاء والاستعلاء على العباد ولن تنال مطلوبك من ذلك الا ما قدر لك وكتب في ام الكتاب انك تدّعي الربوبية وتتسلط على رقاب الجهال الذين اجابوا دعوتك ثم لا تتمنع بذلك الا قليلاً حتى يقتلك قائمنا -عليه السلام- شر قتلة وقد ذكرنا على ما في الحديث ان ليس بين ظهوره وظهور القائم -عليه السلام- إلا ثمانية اشهر .
ثم قال -صلى الله عليه وآله- لاصحابه : ما بعث الله نبياً الا انذر قومه الدجال يعني اني انذرتكم فتنة هذا كما فعل الانبياء -عليهم السلام- قبلي ..
وقوله : وان الله عز وجل أخره الى يومكم هذا ما يريده به لاريكم صورته وصفته.
ثم قال -صلى الله عليه وآله -: فما تشابه عليكم من امره فان ربكم ليس باعور كما رايتم من قبح صورته ثم قال -صلى الله عليه وآله- انه يخرج على حمار عرض ما بين اذنيه ميل .
وفي رواية ابي الصدوق عن النزال بن سيرة في خطبة امير المؤمنين -عليه السلام- فقام اليه الاصبغ بن نباته فقال: يا امير المؤمنين من الدجال ؟ فقال : الا ان الدجال صائد بن الصيد فالشقي من صدقه والسعيد من كذبه يخرج من بلدة يقال لها اصبهان من قرية تعرف باليهودية عينه اليمنى ممسوخة بالدم والعين الاخرى في جبهته تضيء كانها كوكب الصبح فيها علقة كانها ممزوجة بالدم بين عينيه مكتوب كافر يقرأه كل كاتب وانه يخوض البحار ويسير معه الشمس بين يديه جبل من دخان وخلفه جبل ابيض يرى الناس انه طعام يخرج في قحط شديد تحته حمار اقمر خطوة حماره ميل تطوى له الارض منهلاً منهلاً لا يمر بماء إلا غار الى يوم القيامة ينادي باعلى صوته يسمع ما بين الخافقين من الجن والانس والشياطين يقول : (اليَّ اوليائي انا الذي خلق فسوى وقدر فهدى انا ربكم الاعلى) وكذب عدو الله انه اعور يطعم الطعام ويمشي في الاسواق وان ربكم عز وجل ليس باعور ولا يطعم الطعام ولا يمشي ولا يزول وان اكثر اتباعه يومئذ اولاد الزنا واصحاب الطيالسة الخضر يقتله الله عز وجل بالشام على عقبة تعرف بعقبة افيق لثلاث ساعات من يوم الجمعة على يدي من يصلي المسيح عيسى بن مريم خلفه انتهى.
هذا في وصف الدجال -لعنة الله- وانما نقلته لما فيه من الفوائد وبيان ما اشير اليه في التاويل طويل اعرضنا عما نعرف لطوله وعدم اجتماع القلب وما ذكرنا جامع لبيان باقي الحديث المسئول عنه .
وقوله -صلى الله عليه وآله- إلا مكة ولابيتها والمدينة ولابيتها فيه اشارة الى ان مكة يخرج فيها القائم -عليه السلام- وهو قاتله ولا يقدر على الوصول اليها خوفاً منه -عليه السلام- لعلمه انه -عليه السلام- يخرج من مكة والمدينة لقربها منه -عليه السلام- ظاهراً وباطناً واللابة هي الحرة
ذات الحجارة السود قد البتها لكثرتها ولابتا مكة الحراث التي تكتنفها .
والمراد بها حدود الحرم وهو اثنا عشر ميلاً طولاً وعرضاً فمن المشرق الى الكعبة المشرفة احد عشر ميلاً ومن المغرب ميل واحد ومن الشمال اربعة اميال ومن الجنوب ثمانية اميال ولابتا المدينة حرم المدينة وهو حرم رسول الله -صلى الله عليه وآله- وهو ما بين عظيمتين يكتنفانها وفي خبر ما معنى لابيتها ؟ قال :ما احاطت به الحراد . وفي خبر آخر ما بين ظل عائر الى ظل وعير وهما جبلان معروفان . وفي خبر آخر قال ما بين الصورين الى الثنية يريد جبلي المدينة اعني عايراً ووعيراً.
ثم لما كان خروج الدجال انما كان من اشراط الساعة ويخرج بعد الدنيا وان كان في آخرها لان احكامه من نوع احكام الاولى التي هي قيام القائم -عليه السلام- والرجعة فيجري التقدير له وعليه على مقتضى نظام الوجود وجب ان يكون في جميع احواله مطابقة الظاهر للباطن .
ولما كان حرم مكة وحرم المدينة لا يصاد حمامهما لان من دخلهما كان آمنا والدجال هو الصائد فلا يدخل الصائد حرمهما والا لما آمن من دخلها الذي هو صيدهما والى هذا المعنى اشار-صلى الله عليه وآله- لقوله يدخل آفاق الارض كلها الا مكة ولابيتها والمدينة ولابيتها وذلك لان نظام الوجود يقتضي مطابقة الظاهر للباطن

الأحد، 7 فبراير 2010

أهمية زيارة الأربعين



أهمية زيارة الأربعين

و كيف نشأت المجالس والمآتم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ




إذا كان يوم الأربعين من النواميس المتعارفة للاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً، فكيف نفهم هذا المعنى عندما يتجلى في موضوع كالحسين (عليه السلام) الذي بكته السماء أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة. ومثل ذلك فالملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما إختضبت امرأة منا ولا أدهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة من بعده كما جاء في مستدرك الوسائل للنوري، ص215، باب 94، عن زرارة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).
وجرت العادة في الحداد كذلك على الميت أربعين يوماً فإذا كان يوم الأربعين أقيم على قبره الاحتفال بتأبينه.
لكن الأربعين لسيد الشهداء يعني إقامة وتخليد تلك المزايا التي لا تحدها حدود والفواضل التي لا تعد ـ لذا فإن إقامة المآتم عند قبره الشريف في الأربعين من كل سنة إحياء لنهضته وتعريف بالقساوة التي ارتكبها الأمويوين ولفيفهم، وكلّما أمعن الخطيب أو الشاعر في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) وذكر مصيبته وأهل بيته (عليهم السلام) تفتح له أبواب من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك ولهذا اطردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يوم الأربعين من كل سنة ولعل رواية أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء تلميحُ إلى هذه الممارسة المألوفة بين الناس.
وحديث الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): علامات المؤمن خمس صلاة إحدى وخمسين وزيارة الأربعين والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والتختم باليمين وتعفير الجبين يرشدنا إلى تلك الممارسة المألوفة بين الناس ـ حيث أن تأبين سيد الشهداء (عليه السلام) وعقد الاحتفالات لذكره في هذا اليوم إنما يكون ممن يمتّ له بالولاء والمشايعة ولا ريب في أن الذين يمتون له بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته. فالواجب إقامة المآتم في يوم الأربعين من شهادة كل واحد منهم وحديث الإمام العسكري (عليه السلام) لم يشتمل على قرينة لفظية تصرف زيارة الأربعين إلى خصوص الحسين (عليه السلام) إلا أن القرينة الحالية أوجبت فهم العلماء الأعلام من هذه الجملة خصوص زيارة الحسين (عليه السلام) لأن قضية سيد الشهداء هي التي ميزت بين دعوة الحق والباطل ولذا قيل الإسلام بدؤه محمدي وبقاؤه حسيني وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله) (حسين مني وأنا من حسين) يشير إلى ذلك.
ويتجلى مما ذكر بأن المراد زيارة الأربعين إذ فيه إرشاد الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) ويؤكدها الشوق الحسيني، ومعلوم أن الذين يحضرون في الحائر الأطهر بعد مرور أربعين يوماً من مقتل سيد شباب أهل الجنة خصوص المشايعين له السائرين على إثره.
ويشهد له عدم تباعد العلماء الأعلام عن فهم زيارة الحسين (عليه السلام) في الأربعين في العشرين من صفر من هذا الحديث المبارك منهم أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في التهذيب، ح2، ص17، باب فضل زيارة الحسين (عليه السلام) فإنه بعد أن روى الأحاديث في فضل زيارته المطلقة ذكر المقيد بأوقات خاصة ومنها يوم عاشوراء وبعده روى هذا الحديث وفي مصباح المتهجد ص551 ذكر شهر صفر وما فيه من الحوادث ثم قال: وفي يوم العشرين منه رجوع حرم أبي عبد الله (عليه السلام) من الشام إلى مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وورود جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء لزيارة أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله) فكان أول من زاره من الناس.
وقال العلامة الحلي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحج يستحب زيارة الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر। ونقل المجلسي أعلى مقامه في مزار البحار، في فضل زيارته (عليه السلام) وغيرهم من علماء الأمة.


أعمال يوم الأربعين والزيارة الخاصة به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى الشيخ في التهذيب والمصباح عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال: علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى وخمسين، أي الفرائض اليوميّة وهي سبع عشرة ركعة والنوافل اليوميّة وهي أربع وثلاثون ركعة، وزيارة الأربعين والتختم باليمين وتعفير الجبين بالسجود والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم। وقد رويت زيارته في هذا


اليوم على النحو التالي:



روى الشيخ في التهذيب والمصباح عن صفوان الجمّال قال: قال لي مولاي الصّادق صلوات الله عليه في زيارة الأربعين: تزور عند ارتفاع النهار وتقول:
السلام على ولي الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه، السلام على صفي الله وابن صفيّه، السلام على الحسين المظلوم الشهيد، السلام على أسير الكربات وقتيل العبرات، اللهم إني أشهد أنه وليّك وابن وليّك وصفيّك وابن صفيّك الفائز بكرامتك أكرمته بالشهادة وحبوته بالسعادة واجتبيته بطيب الولادة وجعلته سيّداً من السّادة وقائداً من القادة وذائداً من الذّادة وأعطيته مواريث الأنبياء وجعلته حجّة على خلقك من الأوصياء فأعذر في الدّعاء ومنح النصح وبذل مُهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة وقد توازر عليه من غرّته الدنيا وباع حظّه بالأرذل الأدنى وشرى آخرته بالثمن الأوكس وتغطرس وتردّى في هواه وأسخطك وأسخط نبيّك وأطاع من عبادك أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار المستوجبين النار فجاهدهم فيك صابراً محتسباً حتى سفك في طاعتك دمه واستبيح حريمه، اللهم فالعنهم لعناً وبيلاً وعذّبهم عذاباً أليماً، السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا بن سيد الأوصياء، أشهد أنك أمينُ الله وابن أمينه عشت سعيداً ومضيت حميداً ومتّ فقيداً مظلوماً شهيداً، واشهد أن الله منجز ما وعدك ومهلك من خذلك ومعذّب من قتلك، وأشهد أنك وفيت بعهد الله وجاهدت في سبيله حتى أتاك اليقين، فلعن الله من قتلك ولعن الله من ظلمك ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به، اللهم إني أُشهدك أني وليّ لمن والاه وعدوّ لمن عاداه، بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك المدلهمّات من ثيابها وأشهد أنك من دعائم الدين وأركان المسلمين ومعقل المؤمنين، وأشهد أنك الإمام البرّ التقيّ الرّضيّ الزكيّ الهادي المهديّ، وأشهد أنّ الأئمة من ولدك كلمة التقوى وأعلام الهدى والعروة الوثقى والحجّة على أهل الدنيا، وأشهد أني بكم مؤمن وبإيابكم موقن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سلم وأمري لأمركم متّبع ونصرتي لكم معدّة حتى يأذن الله لكم فمعكم معكم لا مع عدوّكم، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم وشاهدكم وغائبكم وظاهركم وباطنكم، آمين رب العالمين।
ثمّ تصلّي ركعتين وتدعو بما أحببت
1 والأرحام الطاهرة
2- وأجسامكم


كيف نشأت المجالس والمآتم؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


يذكر التاريخ أن أول مأتم أقيم بعد واقعة الطف مباشرةً تكوّن من السيدات والفتيات والعلويات وهن زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين (ع) والهاشميين الذين استشهدوا معه.. وقد عقد ذلك المأتم في العراء فوق ساحة المعركة وتحت بقايا شمس اليوم العاشر من المحرم، إذ كانت القلوب مثقلة بالأشجان والصدور ملأى باللوعة والأحزان، تعالت فيها صرخات نساء بني هاشم في كل ركن من أركان الطف حيث قتل السبط الشهيد، فواحدة تندب أباها، وأخرى أخاها وثالثة وليدها، فتمت إقامة المأتم على الحسين (ع) بعد تجمع النسوة كأم كلثوم وزينب وسكينة وبقية النساء الهاشميات، وقيل أنه استمر ثلاثة أيام بلياليها.
كما أقيمت مآتم أخرى في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهن وينشرن مظلومية أهل البيت(ع) والمبادئ التي قتل من أجلها الحسين وأصحابه.. يقول الإمام زين العابدين (ع): (وكلما دمعت عين واحد منا قرعوا رأسه بالرمح تارة وبالسياط تارة أخرى).
ولقد شاء الله أن يفضح جريمة بني أمية في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب (ع) وبقية الهاشميات بيتاً للنياحة على الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قريشية إلا ولبست السواد حزناً على الحسين (ع) وندبته..
وانتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنورة (وكانت أول صارخة فيها على الحسين (ع) عندما قتل بكربلاء أم سلمة زوج النبي (ص) وذلك أن رسول الله دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: إن جبرئيل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، فإذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أن الحسين قد قتل.. صارت القارورة عندها فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، وفي يوم الطف رأتها صارت دماً عبيطاً! فصاحت: - واحسيناه! يا ابن رسول الله...!
فتصارخت النساء في المدينة حتى سمع في المدينة رجة ما سمع مثلها قط (كربلاء شهر حسين: 137)
وأقامت أم سلمة أول مأتم للحسين (ع) في المدينة المنورة، وكان الموالون والمحبون يأتون جماعات وفرادى ويحضرون المأتم ويقدمون تعازيهم ومواساتهم لأهل بيت النبوة، تارة بالنثر وتارة بالشعر ويعبّرون عن مشاعرهم وأحزانهم بأبلغ بيان وأجمل تعبير، حتى إنهم تركوا ثروة أدبية لا يستهان بها في التسلية والمواساة..
كان الواجب يقتضي إحياء أمر أهل البيت(ع) ليبقى كشريان نابض في حياة الأمة الإٍسلامية، يحفظ لها حيويتها بما يمثله من صور ناصعة للإسلام وأصالة لم تشبها شائبة.. لذلك استمرت المآتم ومجالس العزاء بالانعقاد، وتعاظم صداها على طول البلاد وعرضها لتعبر عن حالة الهيجان الشعبي، ورغم كل الصعاب واصلت مسيرتها على مر الأيام والسنين بقوة أحياناً وضعف أحياناً أخرى حسب ما كانت تسمح به الظروف.. ففي مدينة الدم والشهادة كان أول من أقام العزاء على الحسين في كربلاء من زوجاته الرباب (لما قتل الحسين أقامت امرأته الكلبية مأتماً وبكت عليه سنة كاملة) (لواعج الأشجان: محسن الأمين 176).
تروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين(ع) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً، ورثى الحسين بقصيدة معروفة:
يقول أمير غادر وابن غادر ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه
فواندمي ألا أكون نصرته ألا كل نفس لا تسدد نادمه
(أهم مراراً أن أسير بجحفل إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه) (الطبري: 6/271)
وجاء في بحار الأنوار أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم:
إذا العين قرّت في الجنان وأنتم تخافون في الدنيا فأظلم نورها
مررت على قبر الحسين بكربلاء ففاض عليه من دموعي غزيرها
فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه ويسعد عيني دمعها وزفيرها (بحار الأنوار: 10/167)
وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: (إن أول زائر لقبر الحسين (ع) في كربلاء هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين) (موسوعة العتبات المقدسة: جعفر الخليلي 8/257).)
لقد أثرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم.. لاسيما وأن مدينة كربلاء قبلة حجة للزوار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، مما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد، وهيجت مشاعر الناس البسطاء وأنصار آل البيت (ع) ، فعبروا عن غضبهم بشتى السبل. فقال بعضهم شعراً أو نثراً أو خطاباً.. وهذا كثير بن كثير السهمي الشاعر يعجب لما وقع فيقول:
يأمن الظبي والحمام ولا يأ من آل الرسول عند المقام
وهذه سيدة تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي (ص):
ماذا تقولون إن قال النبي لكم: ماذا فعلتم، وأنتم خيرة الأمم؟
بعترتي وبأهلي عند مفتقدي منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بالدم
ما كان هذا جزائي إذْ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضد بني أمية وفي تحريك الثوار..
يروى أن الفرزدق قال لما قتل الإمام الحسين (ع): (إن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها، فاعلموا إنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه ولم تتغير، لم يزدها الله إلى آخر الدهر إلا ذلاً.. وأنشد:
فإن أنتم لم تثأروا لابن خيركم فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازل) (ديوان الفرزدق: دار صادر)
وقال عبيد الله بن الزبير الأسدي معاتباً:
فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل (الطبري: 6/214)
وبعد هذا كله وغيره نشطت وبصورة ملحوظة دعوات الثأر للحسين وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.. وتجمع كتب التاريخ على أن أهل البيت وشيعتهم، كانوا يجتمعون يوم عاشوراء في كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت ويقيمون (النياحة)، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة الطف.. وكان هناك شعر غزير مملوء بالعواطف، ملتهب الوجدان، لم يسمح للشعراء آنذاك الجهر به سمي بشعر (المكتمات) الذي منع من التداول(دراسات حول كربلاء: إبراهيم الحيدري 709).
ولقد أتى هذا النشاط البسيط بمردود كبير لا يمكن نكرانه
في ربيع الأول من عام 65هـ وفي عهد عبد الملك بن مروان قصد كربلاء جماعة من التوابين من أهل الكوفة يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الإمام الحسين، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر فكان ظاهراً معروفاً) (الطبري: 3/417).
ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، بكوا وناحوا ثم رحلوا إلى (عين الوردة) فقاتلوا الأمويين فيها وقتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي فتشتت شملهم. ولهم في رثاء الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره، كابن الأثير الذي يقول عن التوابين: (ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون عليه وعلى أصحابه) (مدينة الحسين: محمد حسن الكليدار 2/73).


وتدريجياً، أصبحت كربلاء مزاراً يؤمه الكثير من المسلمين بالرغم من محاولات المنع والتقييد والاضطهاد التي قام بها الأمويون ومن بعدهم العباسيون، وقد أصبح قبر الإمام الحسين (ع) مركزاً لتجمع الشيعة القادمين من كل مكان على مدار السنة وبخاصة يوم عاشوراء، ولهذا السبب عمل المتوكل العباسي على منع إقامة المآتم الحسينية ومنع زيارة قبر الحسين (ع) ، وكان بذلك أول شخص فعل ذلك، ولم يكتف المتوكل بهذا المنع بل تطرف في عدائه للحسين، ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة (236هـ = 850م) فقال: في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي(ع) وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويسقى موضع قبره) (الكامل في التاريخ: ابن الأثير 7/55، وفيات الأعيان: لابن خلكان 2/434).
علماً بأن المنصور الدوانيقي هو أول من هدم قبر الحسين، وجاء من بعده هارون الرشيد سنة (193ه) فهدم القبر وحرث الأرض وقطع شجرة السدر التي كانت قرب القبر ليمحوا نهائياً آثار القبر الشريف) (بحار الأنوار: 10/294، أعيان الشيعة: 4/304)،
والثالث كان المتوكل وإن ذكر أبو الفرج الأصفهاني: (إن المتوكل هو أول من خرب القبر وهدمه على يد اليهود الذين كانوا معه سنة 233هـ) (مقاتل الطالبيين: 203))
لم يمنع إرهاب المتوكل الشيعة من المضي في إقامة العزاء أو القيام بمراسيم زيارة قبر الحسين (ع) بل استمروا في ذلك بتحدٍ مباشر أو بصورة غير علنية..
وبعد انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء معز الدولة البويهي (936 - 967م) وكان مع وزيره ابن المهلبي من الشيعة. قال ابن الجوزي مع المبالغة في التصوير:
جرت في العاشر من محرم عام (963م = 352هـ) ولأول مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم عاشوراء حيث أغلقت الأسواق وسارت النادبات في شوارع بغداد وقد سودن وجوههن وحللن شعورهن ومزقن ثيابهن وهن يلطمن وجوههن ويرددن مرثية حزينة (المنتظم لابن الجوزي)
وأول من جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء بصفة رسمية هو معز الدولة البويهي (الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية 136).
وإثر ذلك تنفس الشيعة الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الدم أمراً متاحاً. وأخذوا يمارسون طقوسهم بحرية تامة وبصورة علنية، وينقل المقريزي أيضاً: (جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام الإخشيديين في مصر واتسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقف البيع والشراء وتعطلت الأسواق وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة وهم باكون نائحون (نهضة الحسين: هبة الدين الشهرستاني 163).

وذهب الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين (ع) في عاشوراء بصورة ملحمية مؤثرة في النفوس فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع والشراء وتعطل الأسواق ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون ويمضون إلى الجامع الأزهر أو إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حاف وعليه شعار الحزن فيقرأ مقتل الحسين (ع) ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت (ع) إلى أن ينتصف النهار فيدعى الناس إلى مائدة الخليفة، ولا تكون المائدة كموائد الأعياد من فرش أحسن البسط واختيار أنفس الأطعمة وتوفر الألوان وغير ذلك من مظاهر الملوكية وأبهة السلطة، بل تفرش الحصر ويمد سماط الحزن ويغير لون الخبز عمداً، ويجعلون على السماط ألباناً وجبناً وعسلاً وأمثال ذلك، ثم يخرجون بعد تناول الطعام على تلك الهيئة التي كانوا عليها من النوح والبكاء ويستمر الحال إلى ما بعد العصر) (تاريخ الشيعة: محمد حسين المظفر 188).

الأربعاء، 3 فبراير 2010

الإمام الرضا -عليه السلام- في رحاب الله

الإمام في رحاب الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد أن علا نجم الإمام في سماء العاصمة الإسلامية وبان للناس من خلال المناظرات والمحاورات أنّ هذا الرجل هو الجدير بالمركز النبوي العظيم وأنّ غيره معتد وغاصب لحقّه.
كانت كل هذه الشائعات تصل للمأمون فيغصّ في ريقه ويقضّ مضجعه وهو إنّما جاء بالإمام ليضيّق عليه الخناق ويمنع ذكره من الانتشار وإذا به كالطيب كيف وضعته تضوّع ريحه.
لهذا فكر هو وجلاوزته الذين يعصون الله في إطاعة مخلوق كيف يتخلّصون من الإمام وهو ولي العهد. هل يقتلونه عمداً جهاراً فلا يستطيعون، فدبروا له حيلة الحمام التي قتل فيها ذو الرئاستين فلم يذهب الإلحاح المتزايد من المأمون.
لقد ضاق المأمون ذرعاً به لأنّه يريد أن يذهب إلى بغداد ويضمن للعباسيين بقاء حكمهم فكيف يضمن لهم والرضا حي يرزق؟ إذاً ما الحيلة في ذلك؟
وتضافرت الروايات في الكيفية التي ارتكبها المأمون في قتل الإمام الرضا (عليه السلام) فعن أبي الفرج والمفيد أنّه قتله بعصير الرمان والعنب المسمومين.
فقد ذكر المفيد في الإرشاد عن عبد الله بن بشير أنّه قال:
أمرني المأمون أن أطوّل أظفاري على العادة ولا أظهر ذلك لأحد، ففعلت ثم استدعاني فأخرج لي شيئاً يشبه التمر الهندي.
فقال لي: اعجن هذا بيديك جميعاً.
ففعلت.. ثم قام وتركني ودخل على الرضا وقال له ما خبرك؟
قال: أرجو أن أكون صالحاً.
قال أنا بحمد الله أيضاً صالح فهل جاءك أحد من المترفقين في هذا اليوم.
قال: لا.
فغضب المأمون وصاح على غلمانه، ثم قال: فخذ ماء الرمان الساعة فإنّه ممّا لا يستغنى عنه.
ثم دعاني فقال: ائتنا برمان فأتيته به.
فقال لي: أعصر بيديك.
ففعلت، وسقا المأمون الرضا بيده. وكان ذلك سبب وفاته فلم يلبث إلاّ يومين حتى مات.
وذكر عن أبي الصلت الهروي أنّه قال: دخلت على الرضا وقد خرج المأمون من عنده.
فقال لي: يا أبا الصلت قد فعلوها، وجعل يوحّد الله ويمجّده. وروي عن محمد بن الجهم أنّه قال: كان الرضا يعجبه العنب فأخذ له شيء فجعل في موضع أقماعه الإبر أياماً ثم نزع وجيء به إليه فأكل منه وهو في علّته التي ذكرنا فقتله وذكر إن ذلك كان من لطيف السموم.
وعلى أية كيفية كان قتل الإمام فإنّ الذي يرجّح بنظرنا من ملاحظة النصوص والفهم للتاريخ وللظروف السياسية آنذاك أنّ المأمون هو الذي اغتال الإمام بالسمّ دون أن يخامرنا بذلك أي شكّ أو ريبة.
وكانت وفاته بطوس في قرية يقال لها (سناباد) من رستاق تونان ودفن في دار حميد بن قحطبة في القبة التي فيها هارون الرشيد إلى جانبه ممّا يلي القبلة. ولما توفي الرضا لم يظهر المأمون موته في وقته وتركه يوماً وليلة ثم وجّه إلى محمد بن جعفر بن محمد وجماعة من آل أبي طالب فلما أحضرهم وأراهم إيّاه صحيح الجسد لا أثر فيه بكى.
وقال: عزّ علىّ يا أخي أن أراك في هذه الحالة وقد كنت آمل أن أقدم قبلك فأبى الله إلاّ ما أراد وأظهر جزعاً شديداً وحزناً كثيراً وخرج مع جنازته يحملها حتى الموضع الذي هو مدفون فيه الآن.

هوى البدر من عليائه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد هوى البدر من عليائه وأظلم الأفق ولبست الدنيا ثوب حداد حيث فقدت أعظم شخصية عرفتها علماً وعملاً وزهداً وورعاً.
فأنّى لهذه الدنيا أن تعتز بعد اليوم بمن يمشي عليها متواضعاً خائفاً من ربّه مفكّراً في أمره مهتماً بالفقراء من عباده؟!
وأين للفقراء بعد اليوم من يواسيهم ويحنو عليهم ويضمد جراحهم ويعطف على أبنائهم؟!
وأين للجهال اليوم وبعد اليوم من أستاذ ينير الدنيا أمامهم ويفتح طريقاً رحباً في عالم المجهول؟!
وأين للعلماء من ذلك الربّاني العظيم الذي يجتمعون حوله فيغرفون من روحانيته وعلومه ممّا يجعلهم قادة عند الأمم! وأين للفضائل والشمائل الكريمة ومن يتصف بها وتليق له ويليق لها!! هيهات لقد مات كل شيء بعد وفاته حتى كأنّ الدنيا ونضارتها ذهبت ولم يبق من ربيعها المرع وجنانها الخضراء إلاّ نتف من الهشيم اختبأت في زاوية من الزوايا هرباً من الرياح الهوج ففي ذمّة الله أيها القمر المنير، يا من أضأت العالم بنورك الوقّاد وسناك المتوهّج وغمرت العالمين بعطائك الكبير. فسلام على هذه الروح الطيبة المعطاء وسلام على الروض السخي وسلام عليك أيها الإمام العظيم يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّاً.

مراثي الإمام
ـــــــــــــــــــــ
أي قلب لا ينفجر لذكر مصاب جلل وأي طرف لا يذرف دمعه سخياً لدي سماع هذا النبأ الأليم؟!
وأي إنسان لا يتصدع قلباً وقالباً عندما يعلم أنّ شم الجبال قد خرّت وشمس العلم قد كسفت؟!
فكيف بمن جاهد في حب أهل بيت نبيّه مدّة أربعين عاماً وهو يحمل خشبته على كتفه ليجد من يصلبه عليها؟
كيف لا ينفطر قلب هذا الشاعر وهو يتتبع مآسي آل محمد فيذوب لها ويتمزّق مزقاً من أجلها فكيف لا يتمزّق الآن وبالأمس القريب جاء إلى خراسان يقرأ قصيدته التائية التي لم يعرف أشهر ولا أحسن منها في تاريخ الرثاء على كثرة من رثى أهل البيت من الشعراء وقد أخذ جائزة الإمام وأي جائزة قميص الإمام ليكون كفناً له ينفعه في قبره ويوم حشره؟
فهل لدموعه أن تجف أو قلبه أن يتحجّر أو إنّه سوف يزداد مزقاً ويغتسل بدموعه؟
ولا شك أنّ عاطفة هذا الإنسان الفريدة من نوعها جعلته يعيش حالة لا شعورية فيقدم على رثاء من أفجع الرثاء وينحر الحاكم الظالم بسكين من شعرة ويعرّض نفسه وحياته ودمه للسفح.

دعبل والمأمون
ـــــــــــــــــــــــــــ
جاء في (أمالي الشيخ: ج1 ص98 – 99) و(أمالي المفيد 200/201) و(الأغاني) و(الغدير) و(أخبار شعراء الشيعة: 94 – 95).
عن يحيي بن أكثم قال: كان المأمون أقدم دعبل (رحمه الله) وأمّنه على نفسه فلما مثل بين يديه، وكنت جالساً بين يدي المأمون فقال له أنشدني قصيدتك الرائية। فجحدها دعبل وأنكر معرفتها. فقال له: لك الأمان عليها كما أمنتك على نفسك، فأنشده:

##
تأســـــفت جـــارتي لما رأت زوري
وعـــــدت الحـــــلم ذنباً غير مغتفر


##
ترجو الصبا بـــعد ما شابت ذوائبها
وقد جــــــرت طلــقاً في حلبة الكبر

##
أجارتي إن شــــــيب الرأس يعلمني
ذكر المعــــــاد وأرضاني عن القدر

##
لو كنت أركن للدنـــــيا وزيـــــــنتها
إذن بكيت عـلى الماضين من مضر


##
أخنى الزمان على أهلي فصدعـــهم
تصدع الشعـب لا في صدمة الحجر


##
بعض أقام وبعض قد أصــــــــار به
داعي المنـــــية والـباقي على الأثر


##
أما المقــيم فأخـــشى أن يـــفارقني
وليست أوبة مـــــن ولــــى بمنتظر

##
أصبحت أخبر عن أهلي وعن ولدي
كحاكم قــــــص رؤيــــــا بعد مدّكر


##
لولا تشـــاغل عيـــني بالألى سلفوا
من آل بـــيت رســــــول الله لم أقر

##
وفي موالــــيك للمخــــزون مشغلة
من أن تبـــــيت لمـــشغول على أثر


##
كم من رباع لــــهم بالـــــطف بائنةٍ
وعارض بصـــــعيد الــــترب منعفر

##
أنسى الحســـين وســــراهم لمقتله
وهم يقولـــــون هــــــذا سيد البشر
##
يا أمة الســوء ما جازيت أحمد عن
حسن البـــلاء على التنزيل والسور
##
خلفتموه علــــى الأبناء حين مضى
خلافة الذئـــــب فــــي أبقار ذي بقر


قال يحيى وانفذني المأمون في حاجة فقمت فعدت إليه وقد انتهى إلى قوله:

##
لم يبــــق حـــــي من الأحياء نعلمه
من ذي يمــــان ولا بــكر ولا مضر
##
إلاّ وهم شركـــــاء فـــــــي دمائهم
كما تشـــــارك أيـــــــسار على جزر

##
قتل وأســـــــر وتشـــــريد ومنهبة
فعل الغـــــزاة بــأهل الروم والخزر


##
أرى أمــــية معــــــذورين إن قتلوا
ولا أرى لبني العبـــــاس مـــن عذر


##
قوم قتلـــــتم علــــى الإسلام أولهم
حتى إذا استمكنوا جازوا على الكفر

##
أبناء حـــرب ومـــــروان وأسرتهم
بنو معيط ولاة الحـــــقد والــــوغر


##
أربع بطــــوس على قبر الزكي بها
إن كنت تربـــــع من دين على وطر

##
قبران في طـــوس خير الناس كلهم
وقبر شرهـــــــم هـــــــذا من العبر


##
ما ينفع الرجـس من قبر الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر


##
هيهات كل امـــرئ رهن بما كسبت
له يداه فخــــــــذ مــــن ذاك أو فذر



قال: فضرب المأمون بعمامته الأرض، وقال: صدقت والله يا دعبل!!



الإمام الرضا - عليه السلام- يتحدى الفساد

الإمام الرضا يتحدى الفساد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما نتدبر في سورة هود أو سائر السور القرآنية التي تقص علينا رسالة الأنبياء السابقين (ع) نجد أنهم يتحدون الفساد بكل ألوانه . وبالذات الفساد الذي كان مستشرياً في قومهم، ويعتبرون كل فساد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو فكري ينتهي إلى الضلالة أو الشرك أو الكفر وكانوا (ع) يذكِّرون الناس بالله ويحذِّرونهم عذابه في الدنيا وعقابه في الآخرة، لأن هذا هو السبيل لإصلاح الإنسان وردعه عن الفساد بكل ألوانه .
وسار الأئمة (ع) على طريق الأنبياء، حاربوا كل ألوان الفساد، بذات الوسيلة، والإمام الرضا (ع) كأجداده قاد المخلصين من أبناء الأمة في هذا السبيل وتحمل الأذى في سبيل الله .
لقد رفض الاعتراف بالسلطة الجاهلية التي بناها العباسيون باسم الإسلام واعتبرها سلطة غاصبة ظالمة فاسدة جملةً وتفصيلاً .
وناهض التيارات الفكرية المخالفة لأصول الشريعة، وقاوم الفساد الخلقي في الأمة وذلك بنشر تعاليم الدين الحنيف .
ولم يكن الإمام وحده في مواجهة ذلك الفساد العريض، بل كانت صفوة الأمة وخيرة العلماء والحكماء والقادة المخلصين وهم شيعة أهل البيت (ع) يتبعونه في ذلك .
وقد قرأنا معاً كيف وبأي أسلوب كان الأئمة يقودون الأمة، ولكن هنا ينبغي أن نتحدث قليلاً عما أثار التساؤل عند المؤرخين، وهي نقطةٌ مضيئةٌ - في رأينا - تلمع في حياة الإمام الرضا، ومنعطف أساسي في حركة الشيعة وهي قبول الإمام بولاية عهد المأمون .
وقبل كل شيء نتساءل عن الأسباب التي دفعت الخليفة العباسي للإقدام على هذه الخطوة الجريئة .

المأمون يتقرب للإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمأمون الذي ولد من أم فارسية، وتربى في حجر المؤيدين للبيت العلوي، وعرف الكثير من تاريخ الإسلام وتبحَّر في علم الكلام، هل كان شيعياً فعلاً، وهل كان عهده إلى الإمام الرضا بدافع سليم، ثم انقلب عن ذلك ودس السم إلى الإمام لأن الملك - كما قال والده هارون له يوماً - عقيم وأنه لو نازعه فيه لأخذ الذي فيه عيناه ؟
أم كانت خطة دبرها الفضل بن سهل وغيره من بطانته ووقع فيها من دون التفات، ثم عاد عنها وقتل الفضل غيلة في الحمام وقضى على الإمام بالسم ؟
أم أنها كانت خطته اشترك فيها هو وغيره من القادة، وكانت مجرد لعبة سياسية ؟
كل ذلك ممكن ! ولم أجد فيما اطلعت عليه من التاريخ ما يدل على واحد من الإحتمالات بالتأكيد، على أني أميل إلى الإعتراف بكل العوامل التاريخية، وآخذها بعين الإعتبار عند تفسير ظاهرة معينة، لأن مثل هذه العوامل تتفاعل مع بعضها في حياتنا وتصنع من حيث المجموع حياتنا الحاضرة، فلماذا لا نعتقد أن الماضي كالحاضر تصنعه كل العوامل المؤثرة في حياة البشر ؟
من هنا أميل إلى الرأي التالي .. أن كلا من خلفية المأمون الثقافية، والظروف السياسية، ورأي بطانته، أقرت في الإقدام على هذه الخطوة الجريئة، ولولا واحدة منها لم يقدم ..
وهذا يعني أن انقلاب المأمون على الإمام الرضا (ع) جاء بعد تحول الظروف السياسية - وأن الرجل لم يكن شيعياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو إتِّـباع أهل البيت، والتعبد لله في طاعته، إنما كان متأثراً ببعض الأفكار الشيعية كتفضيل أمير المؤمنين (ع) على غيره من الخلفاء، والإعتقاد بخيانة معاوية، وبأن القرآن كتاب محدث وما أشبه .
إلاّ أن ذلك لا يجعل الفرد شيعياً في نظر الأئمة (ع) وهو بالتالي كان صاحب سلطة يبحث عنها أكثر مما يبحث عن المبادئ والقيم .
ولعل والده هارون كان يشير إلى ابنه وإلى خواصّ أهل بيته كما يشير الطغاة عادة إلى بطانتهم من الإعتراف بحق معارضيهم، وذلك عندما تستيقظ ضمائرهم ولو لفترة محدودة . وهكذا يروي المأمون أنه إنما تشيّع على يد والده .
وقد أسرّ المأمون إلى بعض خواصه بالسبب الذي دعاه إلى هذا الأمر، فعن الريّان بن الصلت قال : أكثر الناس في بيعة الرضا (ع) من القواد والعامة، ومن لا يحب ذلك، وقالوا : إن هذا من تدبير الفضل بن سهل ذي الرئاستين، فبلغ المأمون ذلك، فبعث إليَّ في جوف الليل فصرت إليه، فقال : يا ريّان بلغني أن الناس يقولون : أن بيعة الرضا (ع) كانت من تدبير الفضل بن سهل ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين يقولون هذا . قال : ويحك يا ريّان أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية والقـواد، واستوت له الخلافة فيقول له إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك، أيجوز هذا في العقل ؟ قلــــت لــــه : لا والله يا أمير المؤمنين ما يجسر على هذا أحد، قال : لا والله ما كان كما يقولون ولكن سأخبرك بسبب ذلك .
إنه لما كتب إليّ محمد أخي يامرني بالقدوم عليه فأبيت عليه، عقد لعلي بن عيسى بن ماهان وأمره أن يقـيِّدني بقيد ويجعل الجامعة في عنقي، فورد علي بذلك الخبر، وبعثتُ هرثمة بن أعين الى سجستان وكرمان وما والاهما فأفسد علي أمري، وانهزم هرثمة وخرج صاحب السرير، وغلب على كور خراسان، من ناحيته، فورد عليَّ هذا كله في أسبوع .
فلمــــا ورد ذلك عليَّ لم يكن لي قوة بذلك ولا كان لي مال أتقوى به، ورأيت من قـوادي ورجالــــي الفشــــل
والجبن، أردت أن ألحق بملك كابل، فقلت في نفسي : ملك كابل رجل كافر ويبذل محمد له الأموال فيدفعني إلى يده، فلم أجد وجهاً أفضل من أن أتوب إلى الله عزّ وجلّ من ذنوبي وأستعين به على هذه الأمور وأستجير بالله عزّ وجلّ ، فأمرت بهذا البيت وأشار إلى بيت تكنس، وصببت عليَّ الماء، ولبست ثوبين أبيضين وصليت أربع ركعات، قرأت فيها من القرآن ما حضرني ودعوت الله عزّ وجلّ واستجرت به، وعاهدته عهداً وثيقاً بنية صادقة إن أفضى الله بهذا الأمر إليَّ وكفاني عاديته، وهذه الأمور الغليظة، أن أضع هذا الأمر في موضعه الذي وضعه الله عزّ وجلّ فيه .
ثم قوي فيه قلبي فبعثت طاهراً إلى علي بن عيس بن هامان فكان من أمره ما كان، ورددت هرثمة إلى رافع (بن أعين) فظفر به وقتله، وبعثت إلى صاحب السرير فهادنته وبذلت له شيئاً حتى رجع، فلم يزل أمري يقوى حتى كان من أمر محمد ما كان، وأفضى الله إلي بهذا الأمر، واستوى لي .
فلما وافى الله عزّ وجلّ لي بما عاهدته عليه، أحببت أن أفي الله تعالى بما عاهدته، فلم أر أحداً أحــق بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا (ع)، فوضعتها فيه فلم يقبلها إلا إن عليَّ ما قد عملت، فهذا كان سببهــا) .
ولعل هذا السبب كان أيضاً من الدواعي المساعدة إلاّ أن أبرز العوامل التي دفعته إلى ذلك كانت الظروف السياسية التي أشرنا إليها حيث كانت علاقته بالعباسيين سيئة لقتله أخاه أميناً، كما أن القيادات العربية لم تكن راضية عنه بسبب تفضيله الصارخ للقيادات الفارسية، أما أنصار البيت العلوي فقد رأوا ووجدوا الفرصة مؤاتية للإنتقام من السلطة العباسية الغاشمة، وانتفضوا في كل مصر . فماذا بقي له من فرص الإستمرار في السلطة ؟
ولكن محصلة خطط المأمون، والأقدار التي أجرت الرياح في اتجاهه كانت التالية .
1 - اكتساب ود أنصار البيت العلوي باستقدام الإمام الرضا لولاية عهده .
2 - تصفية لكثير من الثورات بالأعمال العسكرية وبقدر من السماحة والعطاء .
3 - الإلتفاف على العباسيين واكتساب ودّهم والعودة إلى خطهم، بعد تصفية الفضل بن سهل، وشهادة الإمام الرضا (ع) .
وهكذا تسنى للمأمون أن يستمر في الحكم وأن يحافظ على العرش العباسي من بعده .


الإمام يستجيب للتحدّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لماذا قبل الإمام الرضا (ع) ولاية عهد المأمون، وإذا كان مضطراً إلى ذلك فكيف استجاب لتحديه ؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أن نلقي نظرة إلى واقع الحركة الرسالية عندما تولى الرضا مركز الإمامة من بعد والده الإمام الكاظم (عليهما السلام) .
في حديث شريف : كان من المقدر أن يكون الإمام موسى بن جعفر هو قائم آل محمد (ص) إلاّ أن الشيعة أذاعوا الأمر فبدا لله فتأخر إلى أجل غير مسمى .
وهذا يعني أن الحركة الرسالية كادت تبلغ يومئذ إلى مستوى التصدي لشؤون الأمة . وبالرغم من أن الإمام الكاظم (ع) قضى نحبه في سجن هارون مسموماً، إلاّ أن الحركة لم تصب بأذى كثير كما نستفيد ذلك من حديث شريف .
وهكذا كانت إمامة الإمام الرضا (ع) واحدة من فرصتين :
الأولى : القيام بحركة مسلحة قد تنتهي إلى دمار الحركة .
الثانية : الإستجابة لتحدي المأمون بقبول ولاية العهد للعمل من خلال السلطة دون إعطاء شرعية لها، كما فعل النبي يوسف حينما طلب من عزيز مصر بأن يجعله على خزائن الأرض . ثم قام بما استطاع إليه سبيلا، من الإصلاح من داخل النظام ..
وكما فعل الإمام أمير المؤمنين (ع) مع الخلفاء الذين سبقوه عندما قبل بالدخول في الشورى كواحد من ستة أعضاء .
وأقل ما في هذه الفرصة الثانية أنها تشكل حماية للحركة الرسالية من التصفية، والقبول بها كحركة معارضة رسمية .
وهكذا نعرف أن الإمام لم يترك قيادته للحركة الرسالية - بل استفاد من مركزه الجديد، كما استفاد الشيعة لدعم مسيرة حركتهم الرسالية التي فرضت نفسها على النظام فرضاً .
ولتحقيق هذه الغايات اتبع الإمام النهج التالي :
أولاً : امتنع عن قبول الخلافة التي عرضها عليه المأمون أولاً، ولعل السبب في رفض الخلافة كان أمرين :
ألف : إن تلك الخلافة كانت ثوباً خاصاً بأمثال المأمون وإنها لا تليق بحجة الله البالغة، لأن بنائها كان قائماً على أساس فاسد، جيشها ونظامها وقوانينها وكل شيء فيها، ولو قبل الإمام بها كان عليه أن يهدمها ويبنيها من جديد ولم يكن ذلك أمراً ممكناً في تلك الظروف .
بـاء : إن المأمون لم يكن صادقاً في عرضه، فهو كان يدبر حيلة مع حزبه الماكر للإيقاع بالإمام إن قبــــل، بعد أخذ الشرعية منه، كما فعل بالنسبة إلى ولاية العهد .
ثانياً : اشترط في قبوله لولاية العهد ألاّ يتدخل في شؤون الدولة من قريب أو بعيد، مما أفقدهم القدرة على تمشية الأمور باسم الإمام وكسب الشرعية له وأبان للعالمين ذلك اليوم وللتاريخ إلى الأبد أنه لا يعترف بشرعية النظام بأي وجه . وقد حاول المأمون مراراً أن يستدرج الإمام للتدخل في الشؤون فلم يقبل والحديث التالي يدل على ذلك :
إن المأمـــون لمّا أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين، وللرضا (ع) بولاية العهــد، وللفضــــل بــــن
سهل بالوزارة، أمر بثلاثة كراسي فنصبت لهم، فلما قعدوا عليها أذن للناس، فدخلوا يبايعون فكانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى الخنصر ويخرجون حتى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار فصفق بيمينه من الخنصر إلى الإبهام، فتبسم أبو الحسن الرضا (ع) ثم قال :
“ كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة غير هذا الفتى فإنه بايعنا بعقدها “ .
فقال المأمون : وما فسخ البيعة من عقدها ؟ قال أبو الحسن (ع) :
“ عقد البيعة هو من أعلى ا لخنصر إلى أعلى الإبهام وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر “ .
قال : فماج الناس في ذلك وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن (ع) وقال الناس : كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة، إن من علم لأولى بها ممن لا يعلم، قال : فحمله ذلك على ما فعله من سمه .
ثالثاً : منذ الأيام الأولى لولايته للعهد انتهز الإمام كل فرصة ممكنة لنشر بصائر الوحي، وأظهر أنه أحق بالخلافة من غيره، فمثلاً نقرأ في وثيقة ولايته للعهد ما يدل على أن المأمون إنما عمل بواجبه في الأحتفاء بأهل بيت الرسالة، دعنا نقرأ ونتدبر معاً الوثيقة التالية :
“ بسم ا لله الرحمن الرحيم الحمد لله الفعّال لما يشاء لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلى الله على نبيّه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين .
أقول وأنا علي بن موسى بن جعفـر أن أمير المؤمنين عضّده الله بالسداد ووفقَّه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاماً قطعــت، وآمن نفوساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، مبتغياً رضى رب العالمين، لا يريد جزاء من غيره، وسيجزي الله الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين .
وإنه جعل إلي عهده، والأمرة الكبرى إن بقيت بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وقصم عروة أحب الله إيثاقها، فقد أباح حريمه، وأحل محرمة، إذ كان بذلك زارياً على الإمام، منتهكاً حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات خوفاً على شتات الديـــن، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبائقة تبتدر .
وقد جعل لله على نفسي أن استرعاني أمر المسلمين، وقلَّدني خلافته، والعمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته وطاعة رسوله (ص) وأن لا أسفك دماً حراماً ولا أبيح فرجاً، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن اتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه، فإنه عزّ وجلّ يقول :
{ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً } (الاسراء / 34) .
وإن أحدثت أو غيّرت أو بدَّلت كنت للغير مستحقاً، وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين .
والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي، ولا بكم إن الحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين .
لكني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيداً “.
وهناك بصائر نستوحيها من كلمات الرضا المضيئة :
أولاّ : قوله (ع) : “ عرف من حقنا ما جهله غيره إلخ “ .
حيث عرّض بهارون والد المأمون، وبالنظام العباسي كله، الذين لم يرعوا حرمة رسول الله (ص) .
ثانياً : إنه قال : فمن حل عقدة أمر الله بشدها إلخ، إشارة إلى خبث السرائر، وحبك المؤامرات ضد الولاية .
ثالثاً : قوله : بذلك جرى السالف إلى آخره، لعله إشارة إلى سكوت الإمام أمير المؤمنين عن جهة أو صبر الأئمة على الأذى خوفاً على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين .
رابعاً : ثم بيان برنامجه للحكم الذي يخالف ما كان عليه عامة بني العباس، وبضمنهم المأمون ذاته .
خامساً : وقال أخيراً : والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، حيث بيّن بذلك أنهم أصحاب علم رسول الله وأنهم أحق بالأمر منهم .
وعندما تهيء الناس للبيعة لفت الإمام نظره إلى أن طريقتهم للبيعة خاطئة مما أثار زوبعة في الناس، دعنا نستمع إلى الحديث التالي الذي جرى بين المأمون والإمام (ع) :
“ يا أبا الحسن أنظر بعض من تثق به توليه هذه البلدان، التي قد فسدت علينا، فقلت له : تفي لي وأفي لك، فإني إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى، ولا أعزل ولا أولي ولا أسير حتى يقدمني الله قبلك، فوالله إن الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي، وإن أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فاقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وإن كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني في نعمة هي علي من ربي فقال : أفي لك “.
وكانت من أعظم ما بيّن فضل الإمام، مجالس المحاجّة التي كان يعقدها بين فترة وأخرى، ولنستعرض معاً واحداً من هذه المجالس لنرى ماذا يدور فيها :
(قال الحسن بن محمد النوفلي : فبيّـنا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (ع) إذ دخل علينا ياسر، وكان يتولى أمر أبي الحسن (ع) فقال : يا سيدي إن أميري يقرؤك السلام ويقول : فداك أخوك إنه اجتمع إليَّ أصحاب المقالات، وأهل الأديان، والمتكلمون من جميع الملل، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت ذلك فلا تتجشم، وإن أحببت أن نصير اليك خف ذلك علينا، فقال أبو الحسن (ع) .
“ أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله تعالى “.
ثم بيَّن الإمام ما يدل على أن هدف المأمون من تشكيل مثل هذه المجالس، النيل من قدر الإمام حيث يظن أنه قد يتوقف عن محاجة خصومه ولكن الإمام قال للنوفلي (الراوي) :
يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ قلت : نعم، قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته، وترك مقالته ورجع إلى قولي، علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم “.
ثم بيّن الحديث - بعد هذا الكلام - وضع الجلسة وقال :
(فلما دخل الرضا (ع) قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفاً والرضا (ع) جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ساعة ثم التفت إلى الجاثليق فقال : ياجاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالب (ع) فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه، فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين كيف أحاجّ رجلاً يحتجّ علي بكتاب أنا منكره، ونبي لا أؤمن به فقال الرضا (ع) : يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به ؟
فقال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله اقرّ به على رغم أنفي . ثم قرأ الرضا (ع) عليه الإنجيل، وأثبت عليه أن نبينا (ص) مذكور فيه ثم أخبره بعدد حواري عيسى (ع) وأحوالهم، واحتج بحجج كثيرة أقرّ بها ثم قرأ عليه كتاب شعيا وغيره إلى أن قال الجاثليق : ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك . فالتفت الرضا (ع) الى رأس الجالوت واحتجَّ عليه بالتوراة والزبور وكتاب شعيا وحيقوق حتى أقحم ولم يُحِر جواباً .
ثم دعا (ع) بالهربذ الأكبر واحتجَّ عليه حتّى انقطع هربذ مكانه .
فقال الرضا (ع) : يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم فقام إليه عمــــران الصابيّ وكان واحداً من المتكلمين فقال : يا عالم النّاس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أُقـدم عليك بالمسائل، فلقــــد دخلت الكوفة والبصرة، والشام والجزيرة، ولقيت المتكلّمين فلم أقع على أحـــد يثبت لي واحـــداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن أن أسالك ؟ قال الرضا (ع) : إن كان في الجماعة عمران الصابيُّ فأنت هو، قال : أنا هو، قال : سل يا عمران، وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور، فقال : والله يـا سيّدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به، فلا أجوزه، قال : سل عمّا بدا لـك .
فازدحم الناس وانضمَّ بعضهم إلى بعض، فاحتج الرضا (ع) عليه وطال الكلام بينهما إلى الزّوال فالتفت الرضا (ع) الى المأمون، فقال : الصلاة قد حضرت فقال عمران : يا سيدي لاتقطع عليَّ مسألتي فقد رقَّ قلبي قال الرضا (ع) : نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون، فصلّى الرضا (ع) داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر، ثمّ خرجا فعاد الرضا (ع) إلى مجلسه ودعا بعمران، فقال : سل يا عمران، فسأله عن الصانع تعالى وصفاته وأُجيب إلى أن قال : أفهمت يا عمران ؟ قال : نعم يا سيّدي قد فهمت، وأشهد أن الله على ما وصفت، ووحّدت وأنّ محمداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحقِّ، ثمَّ خرَّ ساجداً نحو القبلة وأسلم .
قال الحسن بن محمد النوفليُّ : فلما نظر المتكلّمون الى كلام عمران الصابي وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد قطّ لم يدن من الرضا (ع) أحد منهم، ولم يسألوه عن شيء، وأمسينا، فنهض المأمون والرضا (ع) فدخلا، وانصرف الناس وكنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إليَّ محمد بن جعفر فأتيته فقال لي : يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك، لا والله ما ظننت أن علي بن موسى خاض في شيء من هذا قط ولا عرفناه به، إنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إليه أصحاب الكلام ؟ قلت : قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وربما كلم من يأتيه بحاجة .
فقال محمد بن جعفر : يا أبا محمد إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمه أو يفعل به بلية، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء، قلت : إذاً لا يقبل مني، وما أراد الرجل إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه (ع) فقال لي : قل له : إن عمك قد كره هذا الباب، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء لخصال شتى .
فلما انقلبت إلى منزل الرضا (ع) أخبرته بما كان من عمه محمد بن جعفر فتبسم (ع) ثم قال :
حفظ الله عمي ما أعرفني به لم كره ذلك، يا غلام صر إلى عمران الصابي فائتني به فقلت :
جعلت فداك أنا أعرف موضعه وهو عند بعض إخواننا من الشيعة، قال : فلا بأس فقرَّبوا إليه دابة، فصرت إلى عمران فأتيته به، فرحب به ودعا بكسوة فخلعها عليه، وحمله ودعا بعشرة آلاف درهم، فوصله بها .
فقلت : جعلت فداك حكيت فعل جدك أمير المؤمنين (ع) قال : هكذا يجب، ثم دعا (ع) بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره، حتى إذا فرغنا قال لعمران : انصرف مصاحباً وبكّر علينا نطعمك طعام المدينة، فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات، فيبطل أمرهــم حتى اجتنبوه ووصلــه المأمون بعشرة آلاف درهـــم، وأعطاه الفضل مــالاً، وحمله وولاه الرضـــــــا (ع) صدقات بلخ فأصاب الرغائب) .
وقصة استعداد الإمام لصلاة العيد التي أرهبت النظام دليل آخر على أن الإمام لم يترك فرصة إلاّ واستفاد منها لإعلان دعوته، وبيان أنه الأحق بالخلافة من البيت العباسي .
(لما حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا (ع) يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضا (ع) وقال : علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر، فقال المأمون : إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم ويقرُّوا بما فضّلك الله تعالى به، فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك . فلما ألح عليه قال :
يا أمير المؤمنين إن أعفيتني من ذلك فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) .
قال المامون : اخرج كما تحب . وأمر المأمون القوّاد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن (ع) فقعد الناس لأبي الحسن (ع) في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان واجتمع القوّاد على باب الرضا (ع) .
فلما طلعت الشمس قام الرضا (ع) فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه وتشمّر ثم قال لجميع مواليه : افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازة وخرج ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمّر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمَّرة .
فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقوّاد والناس على الباب قد تزينوا ولبسوا السلاح وتهيأوا بأحسن هيئة، فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمّرنا، وطلع الرضا وقف وقفة على الباب وقال :
“ الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا “ ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا .
فتزعزعت مرو من البكاء والصياح فقالها : ثلاث مرات فسقط القوّاد عن دوابهم، ورموا بخفافهم، لما نظروا إلى أبي الحسن (ع) وصارت مرو ضجة واحدة ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة .
فكان أبو الحسن (ع) يمشي ويقف في كل عشرة خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات فيتخيل إلينا أن السماء والأرض والحيطان تجاوبه، وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع فدعا أبو الحسن (ع) بخفه فلبسه ورجع)

الإمام الرضا - عليه السلام - والواقفه

الإمام الرضا والواقفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة الوقف لم تكن قصة اعتقادية لها أسس متينة متوغلة في القدم وإنما فكرة نشأت أخيراً لأسباب مادية تافهة. وقد بيّنا سابقاً أنّ الظرف القاسي والظالم الذي كان يعيشه أهل البيت (عليهم السلام) ساعد كثيراً على خلق هذه الفكرة وأمثالها لأنّه عندما لا يستطيع الإمام أن يعيّن وصيّه ونائبه من بعده، وعند ما يتشرّد أولاد الأئمة الصالحين من علمائهم شرّ تشريد في بقاع الأرض، وعندما يبقى الإمام موسى بن جعفر في سجن الرشيد سنوات سبع، وعندما يظلل الناس جو خانق من الظلم والرعب والقهر والقسر والغلبة، عند ذلك كلّه يستطيع الشيطان أن يلعب لعبته الخبيثة ليفرق الموالين واحداً عن الآخر وكل يتخذ موقفاً مبايناً في العمل والعقيدة للموقف الآخر ممّا يؤدي بالتالي إلى التشرذم والتفرق والانكسار أمام شوكة الظلم والباطل. وهذا ما كان يتوخاه الحاكم الظالم من إلقاء جو الرعب والقتل والتشريد.
وقد لعبت الدنيا في رأس جماعة كانوا من خلص أصحاب الإمام الكاظم فغيّرتهم عن منهج الحقّ وأكلوا أموالاً طائلة لا يحلّ لهم أكلها، وابتدعوا هذا المنهج الجديد ووقفوا عند الإمام موسى بن جعفر لا يتجاوزونه وأنكروا على الإمام الرضا إمامته ووصيته الشرعية رغم وضوحها لديهم ولكن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة.
وقد ظهرت هذه الفكرة وروج لها بعض كبار أصحاب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) كعلي بن حمزة البطائني وزياد بن مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي ويعتبر هؤلاء الثلاثة أقطاب الوقف وأول من خلق هذه البدعة.
وقد حاول هؤلاء منذ زمن الإمام موسى أن يشوّشوا مفهوم الإمامة ويخلقوا بذور مذهبهم الجديد ببعض أخبار سمعوها لم يفهموا معناها غير أن الإمام الكاظم أبان لهم فهمها والمقصود منها.
فقد روي في الغيبة عن الحسن بن الحسن في حديث له،
قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) أسألك.
فقال: سل إمامك.
فقلت: من تعني فإنّي لا أعرف إماماً غيرك.
قال: هو علي ابني قد نحلته كنيتي.
قلت: سيدي أنقذني من النار، فإن أبا عبد الله (عليه السلام) قال: إنّك القائم بهذا الأمر.
قال: أولم أكن قائماً؟ ثم قال: يا حسن ما من إمام يكون قائماً في أمّة إلاّ وهو قائمهم فإذا مضى عنهم فالذي يليه هو القائم والحجة حتى يغيب عنهم، فكلنا قائم فأصرف جميع ما كنت تعاملني به إلى ابني علي فالله الله ما أنا فعلت ذلك به بل الله فعل ذلك به حبّاً.
وهذا الحديث يكشف مدي التشوّش الفكري الذي كانوا يعانون وأنّ الفكرة بدأت بذورها من يوم سماع مثل هذه الروايات التي عصي عليهم فهمها ولكن الإمام أوضح لهم خطأهم في مثل هذا الفهم।


الإمام يضيق الخناق على الواقفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعندما أحسّ الإمام من أتباعه أنّهم يفكّرون مثل هذا التفكير حاول أكثر من مرة أن يجمعهم ويبيّن لهم خطأهم ليصرفهم عن هذه الفكرة وأمثالها لكي يتوبوا أو يرجعوا إلى الله.
فعن حيدر بن أيوب قال كنّا بالمدينة بـ(قبا) فيه محمد بن زيد بن علي فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه.
فقلنا له: جعلنا فداك وما حبسك؟!.
قال دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) فأشهدنا لعلي ابنه في الوصية والوكالة في حياته وبعد موته وأن أمره جائز عليهم.
ثم قال محمد بن زيد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم.
وليقولن الشيعة به من بعده.
وعن عبدالله بن الحارث قال بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا.
ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟
قلنا: لا.
قال: اشهدوا إنّ عليّاً ابني هذا وصيي والقيم بأمري وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا ومن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه ومن لم يكن له بدّ من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه.
وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال أوصى أبو الحسن موسى بن جعفر إلى ابنه علي وكتب له كتاباً أشهد فيه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة، فالإمام في هذه الوصية يؤكّد على ولده علي ويؤكد أنّه ميت وعلى الناس اتباع ولده .

يكاد المريب أن يقول خذوني:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهناك روايات رواها بعض أقطاب الوقف تبين لنا زيف هؤلاء وبدعهم فقد روي زياد بن مروان القندي فقال: دخلت علي أبي إبراهيم وعنده علي ابنه فقال لي: يا زياد هذا كتابه كتابي وكلامه كلامي ورسوله رسولي وما قال فالقول قوله.
وعن أحمد بن محمد الميثمي وكان واقفياً قال: حدثني محمد بن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وقد اشتكى شكاية شديدة وقلت له: إن كان ما اسأل الله أن لا يريناه فإلى من؟
قال: إلى علي ابني وكتابه كتابي وهو وصيي وخليفتي من بعدي.
وعن غنام بن القاسم قال: قال لي منصور بن يونس برزخ.
دخلت على أبى الحسن يعني موسى بن جعفر فقال لي: أما علمت ما أحدثت في يومي هذا.
قلت: لا.
قال: صيرت عليّاً ابني وصييّ والخلف من بعدي فادخل عليه وهنئه بذلك وأعلمه إنّي أمرتك بهذا.
قال: فدخلت عليه فهنأته بذلك وأعلمته أن أباه أمرني بذلك ثم جحد منصور بعد ذلك فأخذ الأموال التي كانت في يده وكسرها .
وكان الإمام يريد أن يسجل على منصور هذا الموقف لئلا يتمكن بعد ذلك أن ينحرف عن الجادّة ولكن حبّ المال أغراه فترك الحق واتّبع الباطل فبئس التابع والمتبوع.
الإمام موسى (عليه السلام) يحذّر الواقفة
الإمام موسى بن جعفر نظر بنور الله وفراسة المؤمن وهو الذي يظن بك الظن كان قد رأى وقد سمع فعرف من هذا النظر الدقيق أن هناك جماعة سوف تغلبهم دنياهم وهواهم وينحرفوا عن جادة الحق فحذّر ما استطاع، ووقف موقفاً لا مثيل له في الدفاع عن خط الإمامة ومنهاج الرسالة المتمثل بالأئمة الاثني عشر (صلوات الله وسلامه عليهم).
فعن البطائني قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إنّ أباك أخبرنا بالخلف من بعده فلو خبرتنا به قال: فأخذ بيدي فهزها ثم قال: (ما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتّقون).
وكأنه يشير إلى الواقع المخزي الذي يصير إليه هذا الرجل بعد وضوح الحق وبيانه ويشير الإمام بصراحة إلى حركة الوقف من بعده وينعى على القائلين به دينهم في حديث رواه محمد بن سنان قال:
دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة وعلي ابنه بين يديه. فقال لي: يا محمد!. قلت: لبيّك.
قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة فلا تجزع منها، ثم أطرق ونكث بيده في الأرض ورفع رأسه إليّ وهو يقول: يضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
قلت: وما ذاك جعلت فداك؟
قال: من ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلى الله عليه وآله).
فعلمت أنّه قد نعى إليّ نفسه ودلّ على ابنه।

الدوافع المادية للواقفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنّ الذين أثاروا مسألة الوقف وابتدعوها يحفظ التاريخ أسماءهم وإنّهم من خزنة الإمام وقوام أمره والمقربين لديه.
فحين مضى الإمام موسى إلى ربّه كان عند علي ابن حمزة البطائني ثلاثون ألف دينار وعند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار وعند عثمان بن عيسى الرواسي ثلاثون ألف دينار وست جوار.
وقد نازعتهم نفوسهم في تسليم هذه الأموال لولده القائم من بعده فتحيلوا لذلك بإنكار موت الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وأنّه حيّ يرزق وإنّهم لن يسلّموا الأموال حتى يرجع فيسلّموها له.
فعن أحمد بن حماد قال: كان أحد القوام عثمان بن عيسى وكان بمصر وكان عنده مال كثير وست جوار.
قال: فبعث إليه: إنّه قد مات وقد اقتسمنا ميراثه وقد صحّت الأخبار بموته واحتجّ عليه فيه.
فكتب إليه: إن لم يكن أبوك مات فليس لك من ذلك شيء وإن كان قد مات على ما تحكي فلم يأمرني بدفع شيء إليك وقد أعتقت الجواري وتزوجتهن.
وفي رواية (الغيبة): إنّ أباك لم يمت وهو حيّ قائم ومن ذكر أنّه مات فهو مبطل
ويحاول علي بن حمزة البطائني وزياد القندي أن يقفا في وجه ملاحقة الإمام لهما ومطالبته إيّاهما بالمال بإنكارهما وجود أي مال لديهما لأبيه ولكن يونس بن عبد الرحمن الذي حاول إغراءه بالمال لكي يتبني معهما الدعوة للوقف يكشف لنا عن تلبسهما بجرم السرقة واغتصاب مال الإمام.
يقول يونس: مات أبو إبراهيم وليس من قوامه أحد إلاّ وعنده المال الكثير وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته طمعاً في الأموال، كان عند زياد القندي سبعون ألف دينار وعند علي بن حمزة البطائني ثلاثون ألف دينار فلما رأيت ذلك وتبينت الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا ما علمت ودعوت الناس فبعثا إليّ وقالا: ما يدعوك إلى هذا إن كنت تريد المال فنحن نغنيك وضمنا لي عشرة آلاف دينار وقالا لي: كف، فأبيت.
وقلت لهما: إنّا روينا عن الصادقين (عليهم السلام) أنهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان وما كنت لأدع الجهاد في أمر الله على كل حال فناصباني وأضمرا لي العداوة
الإمام الرضا يكشف دوافع الوقف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي إحدى رسائل الإمام للبيزنطي يكشف لنا الإمام عن دافع دعوة هؤلاء ودوافعها يقول: أما ابن السراج فإنّما دعاه إلى مخالفتنا، والخروج عن أمرنا أنّه عدا على مال أبي الحسن وكابرني عليه وأبى أن يدفعه، والناس كلّهم مسلمون مجتمعون على تسليمهم الأشياء كلّها إليّ فلما حدث ما حدث من هلاك أبي الحسن اغتنم فراق علي بن حمزة وأصحابه إيّاي وتعلل ولعمري ما به من علّة إلاّ اقتطاعه المال وذهابه به.
وأمّا ابن أبي حمزة فإنّه رجل تأوّل تأويلاً لم يحسن ولم يؤت علمه فألقاه إلى الناس فلج فيه وكره تكذيب نفسه في إبطال قوله بأحاديث تأوّلها ولم يحسن تأويلها ولم يؤت علمها، ورأى أنّه إذا لم يصدق آبائي بذلك لم يدر ما خبر عنه مثل السفياني وغيره أنّه كان، لا يكون منه شيء وقال لهم: ليس يسقط قول آبائي شيء ولكنه قصر علمه عن غايات ذلك وحقائقه فصار فتنة أو شبهة عليه وفرّ من أمر فوقع فيه.
وعدم ذكر الإمام لدافع المال عند البطائني وأصحابه كسبب رئيسي في التزامهم بالوقف لا يمنع من وجوده لأنّ الإمام كان في مقام دحض حجج هؤلاء وإبطال ما تعلّلوا به لذلك. وأمّا ابن السراج فباعتبار أنّه لم يتعلّل بشيء يحتج به وإنّما الظاهر من كلام الإمام أنّ اقتطاعه المال كان في حياة أبيه ولذا فقد ندد عليه بذلك فقط
أحد أقطاب الوقف يعترف
وممّا يدلنا على عدم واقعية هؤلاء بالوقف وأنّها مجرد اتباع لنزوة مادية ما روي من اعتراف أحد هؤلاء القوام عند موته بفظاعة ما ارتكبه من حبس المال وعدم تسليمه للإمام الرضا (عليه السلام).
فعن (الغيبة) للطوسي: أنّ الحسين بن فضال قال: كنت أرى عند عمّي علي بن الحسين بن فضال شيخاً من أهل بغداد وكان يهازل عمي.
فقال له يوماً ليس في الدنيا شرّ منكم يا معشر الشيعة، أو قال الرافضة: فقال له عمّي: ولم لعنك الله؟
قال: أنا زوج بنت أحمد بن أبي بشر السراج قال لي لما حضرته الوفاة:
إنّه كان عندي عشرة آلاف دينار وديعة لموسى بن جعفر فدفعت ابنه عنها بعد موته وشهدت أنه لم يمت فالله الله خلصوني من النار وسلّموها للرضا فوالله ما أخرجنا حبّه ولقد تركناه يصلى في نار جهنم।

شيوع شبهة الوقف وخطورتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد غرّر هؤلاء بصفوة بريئة من أصحاب الإمام وألقوا عليهم الشبه والتشكيكات المريبة فأذعنوا لهم ودانوا بباطلهم أمثال عبد الرحمن بن الحجاج ورفاعة بن موسى ويونس بن يعقوب وجميل بن دراج وحماد بن عيسى وأحمد بن محمد بن أبي نصر والحسن بن علي الوشا وغيرهم من كبار صحابة أهل البيت ولكنهم عادوا إلى الاعتراف بإمامة الرضا والانحراف عن مذهب الوقف.
ولكن البعض ممّن غرروا بهم ببذل المال لهم لكي يدينوا بمذهبهم لم تنفع معه حجة بل ثبتوا على ضلالهم وماتوا وهم ظالمون أمثال حمزة بن بزيع الذي عبّر عنه الإمام الرضا بالشقي.
فعن إبراهيم بن يحيى بن أبي البلاد قال:
قال الرضا: ما فعل الشقي حمزة بن بزيع.
قلت: هو ذا هو قدم.
فقال: يزعم أن أبي حيّ هم اليوم شكاك ولا يموتون غداً إلاّ على الزندقة.
قال صفوان: فقلت بيني وبين نفسي هم شكّاك قد عرفتهم فكيف يموتون غداً على الزندقة، فما لبثت إلاّ قليلاً حتى بلغت عن رجل منهم أنّه قال عند موته: هو كافر بربّ أماته، أي الإمام موسى بن جعفر.
قال صفوان: قلت: هذا تصديق الحديث.
ولقد عاني الإمام الرضا كثيراً في محاربة هؤلاء ودحض أباطيلهم وكشف دخائل نفوسهم وتعريتهم أمام الملأ لئلا تنخدع بهم النفوس الضعيفة।

تخبط بعض عناصر الواقفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن المفارقات الطريفة أن البعض من هؤلاء قال بعد وفاة الإمام موسى بن جعفر بإمامة ولده أحمد فلما خرج هذا مع أبي السرايا في ثورة ابن طباطبا ضد الحكم العباسي أنكر عليه ذلك ورجع إلى القول بالوقف ولم يحدث نفسه بالاعتراف بإمامة الرضا وأنّه الخلف من بعد أبيه.
فقد حدث محمد بن أحمد بن أسيد فقال:
لما كان من أمر أبي الحسن ما كان قال إبراهيم وإسماعيل ابنا أبي السمال: فنأتي أحمد ابنه، فاختلفا إليه زماناً فلما خرج أبو السرايا خرج أحمد بن أبي الحسن معه فأتينا إبراهيم وإسماعيل وقلنا لهما: إنّ هذا الرجل قد خرج مع أبي السرايا فما تقولان؟
قال: فأنكرا ذلك من فعله ورجعا عنه وقالا: أبا الحسن حيّ نثبت على الوقف وأحسب هذا يعني إسماعيل مات على شكّه.
وقد استوعبت هذه الفتنة زمناً طويلاً، كانت الخلافات والمنازعات بينهما وبين الفرقة المحقّة على أشدّها، إلى أن كتب الله لها التحلّل والانقراض بعد هذا لعدم اعتمادها على أسس ثابتة تقوى على المقاومة فترة طويلة من الزمن