حافظ القرآن بإعجاز من بقية الله
إذا أراد المرء أن يتخلق بأخلاق الامام بقية الله (ارواحنا فداه) ، فيكون قريباً منه مرتبطاً به ، و مستريحاً من شر الشيطان و النفس الأمارة .. فعليه – بلا شك – أن يعنى بتهذيب نفسه و يحافظ على اخلاص نيته ، كما قال الشاعر :
إذا أراد المرء أن يتخلق بأخلاق الامام بقية الله (ارواحنا فداه) ، فيكون قريباً منه مرتبطاً به ، و مستريحاً من شر الشيطان و النفس الأمارة .. فعليه – بلا شك – أن يعنى بتهذيب نفسه و يحافظ على اخلاص نيته ، كما قال الشاعر :
فان ترد صحبته وحده فانفض يداً من كل شيئ سواه
و على أقل تقدير ينبغي له أن يعمل بما يعلم – خالصاً لوجه الله (تعالى ) ، فقد جاء في الخبر:
( من عمل بما علّمه الله .. علم ما لم يعلم ) . و صاحب التقوى – في الواقع – هو من يتعلم للعمل ، فلا يغفل في هذه المرحلة عن أدنى تكليف .. و يتسم بالدقة في أداء وظائفه.
و في المرحلة اللاحقة عليه أن يخلص دينه لله ، فلا يقوم بعمل بدون خلوص في النية .
و عندئذ .. يصبح الانسان موضع عناية من الامام بقية الله (روحي و أرواح العالمين له الفداء).
و في هذا الصدد ثمة واقعة عجيبة .. أرويها للقراء الأعزاء :(السيد حسن الأبطحي)
في سنة ( 1332 هـ ش ) كنت حديث العهد بالحوزة العلمية في قم . و لهذا أقمت مدة خمسة عشر يوماً هناك في دار آية الله الشيخ محمد الرازي قبل ترتيب مسألة سكناي . و في هذه المدة كان في دار الشيخ الرازي ضيف آخر ، اسمه : كربلائي محمد كاظم كريمي.
في وقتها كانت لي علاقة ما بحركة (فدائيان اسلام) ، و بقائدها المرحوم حجة الإسلام سيد مجتبى نواب صفوي – على الخصوص.
و قد لاحظت أن المرحوم نواب صفوي و الشيخ الرازي يعاملان كربلائي محمد كاظم بكثير من الاحترام .. لا لأنه رجل عالم ، و لا لأنه ذو نفوذ و منزلة ، و لا لأنه ثري له شأن . و انما – وهذا الدافع الوحيد- لأنه حظي بأن يصبح موضع عناية من الامام بقية الله (روحي له الفداء) ، فوهبه الامام (عليه السلام) ثروة معنوية عظمى . وما ذاك إلا لأن هذا الرجل كان قد عمل بما يعلم من أحكام الاسلام .
و هذه الثروة التي فاز بها هي أنه أمسى – في لحظة واحدة – حافظاً القرآن كله عن ظهر قلب . و علاوة على هذا .. فإن حفظه لم يكن كسائر الحفظ ، ذلك أنه ( عليه السلام ) قد أودع في حافظة هذا الرجل خواص كل آية و كل سورة ، ومالها من المزايا.
و خلال الخمسة عشر يوماً هذه التي عاشرته فيها .. شهدت منه عدة وقائع ، أذكرها هنا للقراء ليعلموا أن هذا الحفظ للقرآن ما كان شيئاً عادياً . فلو أن شخصاً يمتاز بحافظة مرهفة لما استطاع – في مئة سنة – أن يبلغ ما بلغه كربلائي محمد كاظم ! و جدير بالذكر هنا أن هذا الرجل كان قليل الحفظ ، ضعيف الاستعداد ، بسيط .. بحيث أني تعمدت – و باصرار كثير – خلال الأيام الخمسة عشر أن يحفظ اسمي مع لقبي .. ليكون في حافظته مع مخزونها من القرآن الكريم .. و لكنه لم يستطع ذلك إلا في الأيام الأخيرة ، و بعد جهد جهيد .
أتمنى لو كنتم قد رأيتموه بقلة حفظه و بساطته و ضعف استعداده .. و أذن لرأيتم كم هي معجزة عجيبة مسألة حفظه القرآن . على أنه لم يكن قد حفظ القرآن على النمط المألوف ، فالحوادث التي سيأتي ذكرها – و التي حدثت بحضور العلماء و المراجع – تدل على أن هذا الحفظ لم يتحقق على نحو عادي أبداً . و أضرب مثلاً على ذلك .. ما فعله يوماً المرحوم حجة الاسلام سيد عبدالحسين الواحدي ( أحد كبار حركة فدائيان اسلام ) فأنه جهد خلال أيام أن يختار من بضع سور قرآنية كلمات متفرقة ، جعلها في سياق واحد و كأنها آية متكاملة و عندما قرأ جمعه أمام بعض العلماء لم يشك أحد في أنه كان يقرأ شيئاً من القرآن . و لكن ( كربلائي محمد كاظم ) كان الوحيد الذي اعترض عليه قائلاً : هذه الكلمة من السورة الفلانية ، و تلك من السورة الفلانية الأخرى .. حتى شخـّّص حوالي عشرين كلمة ، و نسب كلاً منها إلى مواضعها من سورها المحددة .. و كان يتلو ما قبل كل كلمة و ما بعدها من عبارات السورة المحددة .. و كان يتلو ما قبل كل كلمة و ما بعدها من عبارات السورة . و قال له أيضاً : و أضفت حرف (الواو) من عندك عدة مرات لتصل بين الكلمات ، من أجل أن تختبرني ! حذ هذا بمحضر طائفة من العلماء الذين راقهم ما رأوه من كربلائي كاظم و استحسنوه ، حتى أن أحد كبار العلماء نهض من مكانه و قبل يده .
في أحد تلك الأيام أردت أن اعرّفه لرجل ، فقلت لهذا الرجل : أنه يحفظ القرآن كله .. كما نحفظ نحن سورة ( الفاتحة ) .
فالتفت إلى كربلائي كاظم قائلاً : أتعني أنك تحفظ سورة ( الفاتحة ) حفظاً جيداً ؟ !
قلت : بلا شك ؛ فأنا أقرؤها في الفرائض كل يوم عشر مرات في الأقل .
فقال لي : أذن .. ما هي الكلمة التي تتوسط سورة (الفاتحة ) ؟
أردت أن احسب الكلمات لأتعرف على وسط السورة لكنه ابتدرني قائلاً : كلا ، قل هكذا .. بدون أن تحسب .
قلت : لا أدري . فقال : الكلمة التي في وسط سورة (الحمد ) هي كلمة ((نستعين)) قبلها اثنتا عشرة كلمة ، و بعدها اثنتنا عشرة كلمة . وهي واقعة بين هذه الأثنتي عشرة و بين هذه الأخرى.
و من خلال اختبارات عديدة .. عرفت أنه يعرف كلمات القرآن كلها على هذه الشاكلة . و متى ما سألته عن موقع الكلمة الفلانية في ترتيب كلمات القرآن .. فانه يجيب على الفور و بدون أدنى تأخير ، كأن يقول : هذه الكلمة الألف و مئة و احدى و عشرين في ترتيب كلمات القرآن . و كذا كان شأنه في معرفة تسلسل الآيات . و حتى إذا اردت معرفة عدد الحروف ، أو مرات تكرر لفظة ما في القرآن ... فأنه يجيبك بلا تردد.
قلت له يوماً : ان (فلاناً ) عليه دين كثير ، وقد طلب مني أن أدعو له بأداء دينه ..فإذا كان لديك شيئ يفيده في هذا المعنى فقل لي ، أوصله إليه.
قال : أنا لا أعرف شيئاً غير القرآن . فإذا رغبت فإني أعطيه من القرآن ما يفيده في أداء قرضه .. بشرط ألا تخبر أحداً غيره ، و ألا يخبر هو شخصاً آخر ، و ألا فانه يفقد أثره . أجبته إلى ما اشترط ، فقال : قل له يقرأ هذه الأية الشريفة كذا عدد .. لمدة عشرة أيام ، و هي قوله (تعالى) : و من يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب ، و من يتوكل على الله فهو حسبه أن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيئ قدرا.
أخبرت الرجل بما ذكره كربلائي كاظم ، فعمل به ، و في اليوم العاشر استطاع سداد القرض الذي عليه – و قد كان مبلغاً كبيراً ، لا يدري كيف يفي به .
احدى خصائصه التي حيرت الجميع – و ربما كانت أكثر شيئ امتحن به و اختبر – هي أنك إذا وضعت في يده أية نسخة من المصحف الشريف .. حتى لو كانت نسخة خطية عائدة إلى شخص بعينه ، ثم طلبت منه أن يستخرج آية معينة .. فانه – و بدون أن يقلب أوراق المصحف – يفتح المصحف لتجد الآية المقصودة في إحدى الصفحتين اللتين ظهرتا عند فتح المصحف ، فيشير أمامك إلى الآية ببنانه .
و أعجب من هذا أنه إذا أعطي كتاباً عربياً ، مثل (المكاسب) أو ( شرح اللمعة الدمشقية) – و فيهما آيات قليلة جداً و لم تكتب بحروف متميزة – ثم طلب إليه أن يميز الآيات الموجودة على الصفحات .. فانه يدلـّك – من فوره – على تلكم الآيات ، حتى لو كانت قصيرة ، قائلاً : هذه العبارة من الآية الفلانية في السورة الفلانية.
في أحد الأيام ..كنت أقرا في كتاب عربي ، فأشار إلى كلمة في السطور ، و قال : هذه الكلمة من القرآن . خلت – في البدء – أنه غير قادر على أن يحدد كون هذه الكلمة العربية من القرآن ، أم انها كلمة عربية من غير القرآن . و على سبيل المثال .. فإن كلمة (كفروا) قد تكون قرآنية أو لا تكون كذلك . و لكني وجدت – و أدهشني هذا – أن الكتاب المشار إليه كان يتحدث عن هذه الكلمة من القرآن .. من الوجهة اللغوية.
عندئذ سألته : كيف تعلم هذا ؟
فاجاب : حين أفتح كتاباً يحتوي على آيات قرآنية .. فإن الكلمات و الآيات القرآنية تتلألأ أما عيني نوراً ، فأشير إليها باصبعي مباشرة .
كان يختم القرآن الكريم مرة في كل يوم و ليلة . أي أنه كان يقرأ كل جزء من القرآن في خمس عشرة دقيقة .
و أغرب من هذا أنه كان بوسعه أن يقرأ آيات و القرآن و سوره من الآخر إلى البدء .. بنفس هذه السرعة .
و لإدراك أهمية هذه المسألة ، جرب أن تقرأ سورة ( التوحيد) من آخرها إلى بدئها .. ( أحد كفواً له يكن و لم يولد و لم يلد لم الصمد الله احد الله هو قل ) !
أن إيراد هذه الوقائع التي كانت شاهداً لها ، كما شهدها مئات العلماء – و منهم مراجع كبار كالمرحوم آية الله العظمى البروجردي ، و آية الله العظمى السيد محسن الحكيم – لربما يرسم ملامح صورة ما عن حالة حافظ القرآن : كربلائي محمد كاظم . و مع هذا كله فـ ( ليس الخبر كالمعاينة ) ، و ما راءٍ كمن سمعا ) !
و على أي حال .. فلو كان قدر لك أن ترى هذا الرجل عن قرب لأيقنت أن حفظه القرآن الكريم لم يكن من الطور المألوف في حفظ الحفاظ . و لربما كنت قد استعنت به – كما استعان المرحوم آية الله العظمى البروجردي – لتصحيح بعض القراءات القرآنية المدونة بها المصحف . و أدنى ما يستفيده المرء من معاشرة هذا الرجل أن تتأكد لك – لدى معاينة هذه المعجزة العجيبة – عظمة فعل الله (جل جلاله ) ، و عظمة دينه الحق و قرآنه المجيد.
أجل .. أن لهذه الحالة ينبوعاً صدرت منه .. فما هو هذا الينبوع ؟
روى لي المرحوم كربلائي محمد كاظم أصل الواقعة التي جرت له ، فقال :
في أيام المحرم ... قدِم إلى قريتنا (ساروق) الواقعة في ضواحي مدينة (أراك) واعظ للارشاد ، كان يرتقي المنبر في الليل للموعظة و التبليغ . أيامها كنت شاباً أجد في داخلي رغبة لتعلم المعارف و الأحكام الإسلامية .. فكنت أقصد مجلس لأستمع إليه.
و في أحد الليالي .. تحدث عن مسألة (الخًُمس ) و ( الزكاة ) . و كان فيما قال : لو أن أحداً لا يدفع ما عليه من الخُمس .. فإن صلاته غير صحيحة ؛ ذلك لأن خمس المال غير المخمّس أنما هو للسادة و لامام الزمان (عليه السلام) . و من الجائز أن تكون ثيابك التي ترتديها ، و دارك التي تسكنها .. قد اشتريتها بأموال غير مخمّسة .
أي : قد اشتريتها بأموال خُمسها يخص السادة و امام الزمان (عليه السلام) .. فتكون – بهذا – قد تصرّفت بها غاصباً لها . و ظل هذا الواعظ يتحدث تلك الليلة عن أمور من هذا القبيل.
و كنت قبلها قد عزمت – بيني و بين نفسي – أن أعمل بكل ما أتعرف عليه من أحكام الدين و أتعلمه . من حينها شرعت أتساءل عن واقع أموال مالك الأراضي التي نعمل فيها في قريتنا . و بعد تتبع يسير علمت أنه لا يدفع ما عليه من الخمس و الزكاة . في البداية ذكـّرته بهذه المسألة فلم يعرني أذناً صاغية . فكان أن قـرّرت ألا أظل في القرية ، و لا أعمل لحساب مالك الأراضي ، و أن أوّلي وجهي إلى مكان آخر . و لم يوافق أهلي و أقاربي – و خاصة أبي – على هذا القرار . و لكني لم أذعن لأحد ؛ خشية من الله . و في احدى الليالي خرجت فارّاً من القرية في الظلام .
و في قرية مجاورة .. اشتغلت – تمشية لأمور المعيشة – عاملاً و حطاباً .. لمدة ثلاث سنوات تقريباً ..و حدث في أحد الأيام أن عرف مالك الأراضي المذكور مكان عملي الجديد .. فأرسل إلى من يخبرني بأنه قد تاب إلى الله ، و أنه بدأ يدفع ما هو مستحق عليه من الخمس و الزكاة . و أوصى لي : أنه يود لو أعود إلى القرية لأكون إلى جوار أبي . عندها رضيت أن أعود إلى القرية . و هناك أعطاني المالك قطعة أرض ، رحت أزرعها و أعمل فيها نصف نهار كل يوم . أما غلة الزرع .. فكنت أقسم نصفها بين فقراء القرية ، و أعمد إلى إعانة كثير من المحتاجين و المعوزين .. و أود لو أكون دائماً في عون ذوي الفاقة و المحرومين.
كان يوماً صائفاً ذلك اليوم الذي خرجت فيه إلى المزرعة ، لأفصل التبن عن حب القمح . كنت أنتظر هبوب ريح مواتية ، لأقوم بالتذرية . أنتظرت طويلاً .. و لكن ما ثمة نسمة هواء. لقد كان الجو ساكناً تماماً . عندها قفلت راجعاً إلى القرية و في الطريق لقيني أحد فقراء القرية فقال لي : هذه السنة ما أعطيتني شيئاً من محصولك .. أنسيتـني ؟! قلت : كلا – لا قدر الله .. أنا لا أنسى الفقراء . و لكني لم أجمع المحصول حتى الآن . و أطمئنّ إلى أن حقك محفوظ.
سـُر الرجل ، و مضى تلقاء القرية .. بيد أن قلبي لم يقر له قرار ، فعدت من فوري إلى المزرعة ، و جمعت – بعناء كثير – مقداراً من القمح ، وحملته لهذا الرجل الفقير .. كما حملت معي كمية من العلف لأغنامي . كان الوقت على مشارف العصر لما حملت القمح و العلف ، و سرت نحو القرية.
و قبل أن أبلغ القرية وصلت إلى مزار أحد أبناء الأئمة . و هو المزار المعروف باسم – الأثنين و السبعين شخصاً – و قد دفن فيه أثنان من أبناء الأئمة (عليهم السلام) هما : جعفر و صالح . و جانب من هذا المزار يقال له : (الأربعون فتاة ).
جلست للاستراحة عند عتبة المزار ، و وضعت القمح و العلف جانباً.. و رحت أنظر إلى المدى البعيد . في ذلك الوقت لفت نظري رجلان شابان يتقدمات صوبي . أحدهما ذو قامة ممشوقة رائعة و له هيبة عجيبة و جلال . كانا يرتديان ثياباً عربية .. و قد أعتمر كل منهما عمامة خضراء . ثم لما وصلا إلى – و لم أكن قد رأيتهما من قبل – ناداني الرجل الجميل المهيب باسمي ، قائلاً : كربلائي كاظم .. تعال نذهب لنقرأ (الفاتحة) لابن الامام هذا . قلت له : يا سيد .. ذهبت إلى زيارته قبل قليل . و علىّ أن أعود الآن ، لأوصل العلف إلى الدار.
قال : حسناً جداً .. ضع هذا العلف إلى جوار الحائط ، و تعال معنا نقرأ ( الفاتحة) . طاوعته و مضيت إلى جهة السيد الثاني .. و تبعتها فدخلت المزار . في ذلك الوقت وجدتهما يقرءان شيئاً لم أتبينه . فبقيت واقفاً بمحاذاة الضريح صامتاً . لكني فوجئت إذ وقع نظري على كتيبة رأيتها في أطراف السقف . كانت ثمة كلمات من نور ! التفت إليّ الرجل الجليل المهيب و قال : كربلائي كاظم .. ما بالك لا تقرأ؟
قلت : يا سيد .. أنا لم أذهب إلى الملا. (1) لا أعرف القراءة و الكتابة .
فقال : و لكن عليك أن تقرأ . ثم دنا منـّي ، و وضع يده على صدري و ضغط عليه بقـوّة و قال : اقرأ الآن . قلت : ماذا أقرأ فقال : أقرأ هكذا :
(( بسم الله الرحمن الرحيم . إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرض يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره ، ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين)
قرأت بقراءة هذا الرجل ، و قرأت بقرأءته أيضاً بعدها أ ٌخر. و كان ما يزال واضعاً يده على صدري .. حتى بلغت آخر الآية التاسعة و الخمسين ، حيث تختتم بهذه العبارة : ( أني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ).
عندها أردت أن أقول لهذا الرجل شيئاً ، فحولت وجهي إليه .. لكني لم أجد أحداً ، ولم أر أثراً لهذا الرجل الذي كان واضعاً يده على صدري إلى آخر لحظة . أما الكتيبة التي كانت في السقف .. فقد توارت كذلك .
لحظتها .. داخلني هول عجيب ، لم اشعر بعده بما جرى . إذ وقعت على الأرض فاقد الوعي.
كان الوقت مقارباً لطلوع الفجر لمّا أفقت . الفضاء ما يزال في ظلمته . لقد أنـُسيت
________________________
1- الملا : أي معلّم الصّبيان و يراد به في الاصطلاح : المكتب الذي كان الأولاد و البنات في الأجيال الماضية يتعلمون فيه مبادئ القراءة و الكتابة و قراءة القرآن الكريم . (المترجم)
2- سورة الأعراف : 54
تماماً ما كان حدث لي أمس . بقيت عدة دقائق كمن يستيقظ من النوم و لا يدري أين هو ! تطلعت حولي ، و أنا أحسّ بتعب شديد في بدني . وحين فطنت إلى أني كنت نائماً عند المزار أخذت أعنـّف نفسي و أوبـّخها : أما وراءك شغل و عمل ؟! ماذا تصنع هنا ؟!
و مهما يكن .. فقد نهضت و خرجت من المزار . ثم حملت العلف على كتفي . و في الطريق تنبهت إلى أني أعرف كلمات عربية كثيرة . و على حين غـّرة تذكرت ما حدث لي أمس ، و كيف كنت مع ذلك السيد الجليل المهيب .. فتملكني – مرة أخرى – فزع و رعب . و لكني مضيت هذه المرة حتى أنتهيت إلى البيت .
و في البيت طفق أهلي يعنـّفوني قائلين : أين كنت من أمس إلى الآن ؟! أين كنت في الليل ؟! و لكني لم أنطق بحرف ، و وضعت العلف أمام الأغنام . و حين طرّ الصباح حملت القمح إلى دار ذلك الرجل الفقير و سلمته أياه . ثم خففت مباشرة إلى إمام جماعة القرية الشيخ صابر الأراكي ، وقصصت عليه ما جرى لي من أوله إلى آخره . فقال لي امام الجماعة :اقرأ ما تعرف، فقرأت . فقال : هذه آيات قرآنية ! و ظل يختبر حفظي ساعات ، فكنت أجيب عن كل ما أراد . بعدها بدأ خبري يذيع شيئاً فشيئاً بين أهل القرية ، و أنا عاكف على عملي في الزراعة و تدبير شؤون المزرعة .. حتى كان يوم ذهبت فيه إلى قرية (شهاب) الواقعة قرب (ملاير) لانجاز عمل لي هناك . و في قرية (شهاب أبلغ أهاليها بخبري السيد اسماعيل العلوي البروجردي الذي كان من علماء (ملاير ) .. فجاء السيد اسماعيل لرؤيتي ، و اصطحبني – بعد الحاح منه و الحاف – إلى (ملاير) . وهناك حكى قضيتي بمحضر عدد شخصيات (ملاير ) ، فكانوا يختبروني في حفظ القرآن ، و قد تملكهم العجب . ثم كان رأي علماء (ملاير ) أن يشيعوا خبري في إيران كلها ، ليرى الناس كيف يمنّ الامام صاحب الزمان ( عليه السلام) على رجل أدّى واجباته باخلاص.
عـّرفوني- أول ما عـّرفوني – على آية الله العظمي السيد البروجردي .. فكان يمتحن حفظي مرات و مرات ، حتى أطمأن إلى أن امام العصر ( عليه السلام) قد جاد على حقاً بلطفه و منـّته .
و قابلت رجال الحوزة العلمية و كافة علماء قم الكبار ، فأقرّوا بهذه الحقيقة . ثم أخذني عدة من التجار ( وقد نسيت أسماءهم ) إلى النجف الأشرف و كربلاء المقدسة بهدف لقاء علمائها .. و صحبني في سفري هذه عدة أشخاص . و في النجف و كربلاء التقيت بالعلماء و المراجع هناك . و لا يحضرني الآن من أسمائهم غير اسم آية الله العظمى السيد الميلاني – الذي كان آنذاك في كربلاء .. و غير أسم آية الله العظمى السيد الحكيم في النجف ، فعاملوني بكثير من المودة . و كلـّهم قد أقر باعجاز الامام وليّ الأمر (أرواحنا فداه) و لمّا عدت إلى إيران .. أهتمّت بي جماعة (فدائيان اسلام)
و ها أنا ما أزال في قم أتحدث إليك . هذا هو مختصر قضيتي .
حكى لي كربلائي كاظم هذا كله .. فشكرت له ذلك . و كنت قد دونت قضيته إلى هذا الحد . و قد وفقت اليوم لأرويها للقــّراء الأعـّزاء .
و على أقل تقدير ينبغي له أن يعمل بما يعلم – خالصاً لوجه الله (تعالى ) ، فقد جاء في الخبر:
( من عمل بما علّمه الله .. علم ما لم يعلم ) . و صاحب التقوى – في الواقع – هو من يتعلم للعمل ، فلا يغفل في هذه المرحلة عن أدنى تكليف .. و يتسم بالدقة في أداء وظائفه.
و في المرحلة اللاحقة عليه أن يخلص دينه لله ، فلا يقوم بعمل بدون خلوص في النية .
و عندئذ .. يصبح الانسان موضع عناية من الامام بقية الله (روحي و أرواح العالمين له الفداء).
و في هذا الصدد ثمة واقعة عجيبة .. أرويها للقراء الأعزاء :(السيد حسن الأبطحي)
في سنة ( 1332 هـ ش ) كنت حديث العهد بالحوزة العلمية في قم . و لهذا أقمت مدة خمسة عشر يوماً هناك في دار آية الله الشيخ محمد الرازي قبل ترتيب مسألة سكناي . و في هذه المدة كان في دار الشيخ الرازي ضيف آخر ، اسمه : كربلائي محمد كاظم كريمي.
في وقتها كانت لي علاقة ما بحركة (فدائيان اسلام) ، و بقائدها المرحوم حجة الإسلام سيد مجتبى نواب صفوي – على الخصوص.
و قد لاحظت أن المرحوم نواب صفوي و الشيخ الرازي يعاملان كربلائي محمد كاظم بكثير من الاحترام .. لا لأنه رجل عالم ، و لا لأنه ذو نفوذ و منزلة ، و لا لأنه ثري له شأن . و انما – وهذا الدافع الوحيد- لأنه حظي بأن يصبح موضع عناية من الامام بقية الله (روحي له الفداء) ، فوهبه الامام (عليه السلام) ثروة معنوية عظمى . وما ذاك إلا لأن هذا الرجل كان قد عمل بما يعلم من أحكام الاسلام .
و هذه الثروة التي فاز بها هي أنه أمسى – في لحظة واحدة – حافظاً القرآن كله عن ظهر قلب . و علاوة على هذا .. فإن حفظه لم يكن كسائر الحفظ ، ذلك أنه ( عليه السلام ) قد أودع في حافظة هذا الرجل خواص كل آية و كل سورة ، ومالها من المزايا.
و خلال الخمسة عشر يوماً هذه التي عاشرته فيها .. شهدت منه عدة وقائع ، أذكرها هنا للقراء ليعلموا أن هذا الحفظ للقرآن ما كان شيئاً عادياً . فلو أن شخصاً يمتاز بحافظة مرهفة لما استطاع – في مئة سنة – أن يبلغ ما بلغه كربلائي محمد كاظم ! و جدير بالذكر هنا أن هذا الرجل كان قليل الحفظ ، ضعيف الاستعداد ، بسيط .. بحيث أني تعمدت – و باصرار كثير – خلال الأيام الخمسة عشر أن يحفظ اسمي مع لقبي .. ليكون في حافظته مع مخزونها من القرآن الكريم .. و لكنه لم يستطع ذلك إلا في الأيام الأخيرة ، و بعد جهد جهيد .
أتمنى لو كنتم قد رأيتموه بقلة حفظه و بساطته و ضعف استعداده .. و أذن لرأيتم كم هي معجزة عجيبة مسألة حفظه القرآن . على أنه لم يكن قد حفظ القرآن على النمط المألوف ، فالحوادث التي سيأتي ذكرها – و التي حدثت بحضور العلماء و المراجع – تدل على أن هذا الحفظ لم يتحقق على نحو عادي أبداً . و أضرب مثلاً على ذلك .. ما فعله يوماً المرحوم حجة الاسلام سيد عبدالحسين الواحدي ( أحد كبار حركة فدائيان اسلام ) فأنه جهد خلال أيام أن يختار من بضع سور قرآنية كلمات متفرقة ، جعلها في سياق واحد و كأنها آية متكاملة و عندما قرأ جمعه أمام بعض العلماء لم يشك أحد في أنه كان يقرأ شيئاً من القرآن . و لكن ( كربلائي محمد كاظم ) كان الوحيد الذي اعترض عليه قائلاً : هذه الكلمة من السورة الفلانية ، و تلك من السورة الفلانية الأخرى .. حتى شخـّّص حوالي عشرين كلمة ، و نسب كلاً منها إلى مواضعها من سورها المحددة .. و كان يتلو ما قبل كل كلمة و ما بعدها من عبارات السورة المحددة .. و كان يتلو ما قبل كل كلمة و ما بعدها من عبارات السورة . و قال له أيضاً : و أضفت حرف (الواو) من عندك عدة مرات لتصل بين الكلمات ، من أجل أن تختبرني ! حذ هذا بمحضر طائفة من العلماء الذين راقهم ما رأوه من كربلائي كاظم و استحسنوه ، حتى أن أحد كبار العلماء نهض من مكانه و قبل يده .
في أحد تلك الأيام أردت أن اعرّفه لرجل ، فقلت لهذا الرجل : أنه يحفظ القرآن كله .. كما نحفظ نحن سورة ( الفاتحة ) .
فالتفت إلى كربلائي كاظم قائلاً : أتعني أنك تحفظ سورة ( الفاتحة ) حفظاً جيداً ؟ !
قلت : بلا شك ؛ فأنا أقرؤها في الفرائض كل يوم عشر مرات في الأقل .
فقال لي : أذن .. ما هي الكلمة التي تتوسط سورة (الفاتحة ) ؟
أردت أن احسب الكلمات لأتعرف على وسط السورة لكنه ابتدرني قائلاً : كلا ، قل هكذا .. بدون أن تحسب .
قلت : لا أدري . فقال : الكلمة التي في وسط سورة (الحمد ) هي كلمة ((نستعين)) قبلها اثنتا عشرة كلمة ، و بعدها اثنتنا عشرة كلمة . وهي واقعة بين هذه الأثنتي عشرة و بين هذه الأخرى.
و من خلال اختبارات عديدة .. عرفت أنه يعرف كلمات القرآن كلها على هذه الشاكلة . و متى ما سألته عن موقع الكلمة الفلانية في ترتيب كلمات القرآن .. فانه يجيب على الفور و بدون أدنى تأخير ، كأن يقول : هذه الكلمة الألف و مئة و احدى و عشرين في ترتيب كلمات القرآن . و كذا كان شأنه في معرفة تسلسل الآيات . و حتى إذا اردت معرفة عدد الحروف ، أو مرات تكرر لفظة ما في القرآن ... فأنه يجيبك بلا تردد.
قلت له يوماً : ان (فلاناً ) عليه دين كثير ، وقد طلب مني أن أدعو له بأداء دينه ..فإذا كان لديك شيئ يفيده في هذا المعنى فقل لي ، أوصله إليه.
قال : أنا لا أعرف شيئاً غير القرآن . فإذا رغبت فإني أعطيه من القرآن ما يفيده في أداء قرضه .. بشرط ألا تخبر أحداً غيره ، و ألا يخبر هو شخصاً آخر ، و ألا فانه يفقد أثره . أجبته إلى ما اشترط ، فقال : قل له يقرأ هذه الأية الشريفة كذا عدد .. لمدة عشرة أيام ، و هي قوله (تعالى) : و من يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب ، و من يتوكل على الله فهو حسبه أن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيئ قدرا.
أخبرت الرجل بما ذكره كربلائي كاظم ، فعمل به ، و في اليوم العاشر استطاع سداد القرض الذي عليه – و قد كان مبلغاً كبيراً ، لا يدري كيف يفي به .
احدى خصائصه التي حيرت الجميع – و ربما كانت أكثر شيئ امتحن به و اختبر – هي أنك إذا وضعت في يده أية نسخة من المصحف الشريف .. حتى لو كانت نسخة خطية عائدة إلى شخص بعينه ، ثم طلبت منه أن يستخرج آية معينة .. فانه – و بدون أن يقلب أوراق المصحف – يفتح المصحف لتجد الآية المقصودة في إحدى الصفحتين اللتين ظهرتا عند فتح المصحف ، فيشير أمامك إلى الآية ببنانه .
و أعجب من هذا أنه إذا أعطي كتاباً عربياً ، مثل (المكاسب) أو ( شرح اللمعة الدمشقية) – و فيهما آيات قليلة جداً و لم تكتب بحروف متميزة – ثم طلب إليه أن يميز الآيات الموجودة على الصفحات .. فانه يدلـّك – من فوره – على تلكم الآيات ، حتى لو كانت قصيرة ، قائلاً : هذه العبارة من الآية الفلانية في السورة الفلانية.
في أحد الأيام ..كنت أقرا في كتاب عربي ، فأشار إلى كلمة في السطور ، و قال : هذه الكلمة من القرآن . خلت – في البدء – أنه غير قادر على أن يحدد كون هذه الكلمة العربية من القرآن ، أم انها كلمة عربية من غير القرآن . و على سبيل المثال .. فإن كلمة (كفروا) قد تكون قرآنية أو لا تكون كذلك . و لكني وجدت – و أدهشني هذا – أن الكتاب المشار إليه كان يتحدث عن هذه الكلمة من القرآن .. من الوجهة اللغوية.
عندئذ سألته : كيف تعلم هذا ؟
فاجاب : حين أفتح كتاباً يحتوي على آيات قرآنية .. فإن الكلمات و الآيات القرآنية تتلألأ أما عيني نوراً ، فأشير إليها باصبعي مباشرة .
كان يختم القرآن الكريم مرة في كل يوم و ليلة . أي أنه كان يقرأ كل جزء من القرآن في خمس عشرة دقيقة .
و أغرب من هذا أنه كان بوسعه أن يقرأ آيات و القرآن و سوره من الآخر إلى البدء .. بنفس هذه السرعة .
و لإدراك أهمية هذه المسألة ، جرب أن تقرأ سورة ( التوحيد) من آخرها إلى بدئها .. ( أحد كفواً له يكن و لم يولد و لم يلد لم الصمد الله احد الله هو قل ) !
أن إيراد هذه الوقائع التي كانت شاهداً لها ، كما شهدها مئات العلماء – و منهم مراجع كبار كالمرحوم آية الله العظمى البروجردي ، و آية الله العظمى السيد محسن الحكيم – لربما يرسم ملامح صورة ما عن حالة حافظ القرآن : كربلائي محمد كاظم . و مع هذا كله فـ ( ليس الخبر كالمعاينة ) ، و ما راءٍ كمن سمعا ) !
و على أي حال .. فلو كان قدر لك أن ترى هذا الرجل عن قرب لأيقنت أن حفظه القرآن الكريم لم يكن من الطور المألوف في حفظ الحفاظ . و لربما كنت قد استعنت به – كما استعان المرحوم آية الله العظمى البروجردي – لتصحيح بعض القراءات القرآنية المدونة بها المصحف . و أدنى ما يستفيده المرء من معاشرة هذا الرجل أن تتأكد لك – لدى معاينة هذه المعجزة العجيبة – عظمة فعل الله (جل جلاله ) ، و عظمة دينه الحق و قرآنه المجيد.
أجل .. أن لهذه الحالة ينبوعاً صدرت منه .. فما هو هذا الينبوع ؟
روى لي المرحوم كربلائي محمد كاظم أصل الواقعة التي جرت له ، فقال :
في أيام المحرم ... قدِم إلى قريتنا (ساروق) الواقعة في ضواحي مدينة (أراك) واعظ للارشاد ، كان يرتقي المنبر في الليل للموعظة و التبليغ . أيامها كنت شاباً أجد في داخلي رغبة لتعلم المعارف و الأحكام الإسلامية .. فكنت أقصد مجلس لأستمع إليه.
و في أحد الليالي .. تحدث عن مسألة (الخًُمس ) و ( الزكاة ) . و كان فيما قال : لو أن أحداً لا يدفع ما عليه من الخُمس .. فإن صلاته غير صحيحة ؛ ذلك لأن خمس المال غير المخمّس أنما هو للسادة و لامام الزمان (عليه السلام) . و من الجائز أن تكون ثيابك التي ترتديها ، و دارك التي تسكنها .. قد اشتريتها بأموال غير مخمّسة .
أي : قد اشتريتها بأموال خُمسها يخص السادة و امام الزمان (عليه السلام) .. فتكون – بهذا – قد تصرّفت بها غاصباً لها . و ظل هذا الواعظ يتحدث تلك الليلة عن أمور من هذا القبيل.
و كنت قبلها قد عزمت – بيني و بين نفسي – أن أعمل بكل ما أتعرف عليه من أحكام الدين و أتعلمه . من حينها شرعت أتساءل عن واقع أموال مالك الأراضي التي نعمل فيها في قريتنا . و بعد تتبع يسير علمت أنه لا يدفع ما عليه من الخمس و الزكاة . في البداية ذكـّرته بهذه المسألة فلم يعرني أذناً صاغية . فكان أن قـرّرت ألا أظل في القرية ، و لا أعمل لحساب مالك الأراضي ، و أن أوّلي وجهي إلى مكان آخر . و لم يوافق أهلي و أقاربي – و خاصة أبي – على هذا القرار . و لكني لم أذعن لأحد ؛ خشية من الله . و في احدى الليالي خرجت فارّاً من القرية في الظلام .
و في قرية مجاورة .. اشتغلت – تمشية لأمور المعيشة – عاملاً و حطاباً .. لمدة ثلاث سنوات تقريباً ..و حدث في أحد الأيام أن عرف مالك الأراضي المذكور مكان عملي الجديد .. فأرسل إلى من يخبرني بأنه قد تاب إلى الله ، و أنه بدأ يدفع ما هو مستحق عليه من الخمس و الزكاة . و أوصى لي : أنه يود لو أعود إلى القرية لأكون إلى جوار أبي . عندها رضيت أن أعود إلى القرية . و هناك أعطاني المالك قطعة أرض ، رحت أزرعها و أعمل فيها نصف نهار كل يوم . أما غلة الزرع .. فكنت أقسم نصفها بين فقراء القرية ، و أعمد إلى إعانة كثير من المحتاجين و المعوزين .. و أود لو أكون دائماً في عون ذوي الفاقة و المحرومين.
كان يوماً صائفاً ذلك اليوم الذي خرجت فيه إلى المزرعة ، لأفصل التبن عن حب القمح . كنت أنتظر هبوب ريح مواتية ، لأقوم بالتذرية . أنتظرت طويلاً .. و لكن ما ثمة نسمة هواء. لقد كان الجو ساكناً تماماً . عندها قفلت راجعاً إلى القرية و في الطريق لقيني أحد فقراء القرية فقال لي : هذه السنة ما أعطيتني شيئاً من محصولك .. أنسيتـني ؟! قلت : كلا – لا قدر الله .. أنا لا أنسى الفقراء . و لكني لم أجمع المحصول حتى الآن . و أطمئنّ إلى أن حقك محفوظ.
سـُر الرجل ، و مضى تلقاء القرية .. بيد أن قلبي لم يقر له قرار ، فعدت من فوري إلى المزرعة ، و جمعت – بعناء كثير – مقداراً من القمح ، وحملته لهذا الرجل الفقير .. كما حملت معي كمية من العلف لأغنامي . كان الوقت على مشارف العصر لما حملت القمح و العلف ، و سرت نحو القرية.
و قبل أن أبلغ القرية وصلت إلى مزار أحد أبناء الأئمة . و هو المزار المعروف باسم – الأثنين و السبعين شخصاً – و قد دفن فيه أثنان من أبناء الأئمة (عليهم السلام) هما : جعفر و صالح . و جانب من هذا المزار يقال له : (الأربعون فتاة ).
جلست للاستراحة عند عتبة المزار ، و وضعت القمح و العلف جانباً.. و رحت أنظر إلى المدى البعيد . في ذلك الوقت لفت نظري رجلان شابان يتقدمات صوبي . أحدهما ذو قامة ممشوقة رائعة و له هيبة عجيبة و جلال . كانا يرتديان ثياباً عربية .. و قد أعتمر كل منهما عمامة خضراء . ثم لما وصلا إلى – و لم أكن قد رأيتهما من قبل – ناداني الرجل الجميل المهيب باسمي ، قائلاً : كربلائي كاظم .. تعال نذهب لنقرأ (الفاتحة) لابن الامام هذا . قلت له : يا سيد .. ذهبت إلى زيارته قبل قليل . و علىّ أن أعود الآن ، لأوصل العلف إلى الدار.
قال : حسناً جداً .. ضع هذا العلف إلى جوار الحائط ، و تعال معنا نقرأ ( الفاتحة) . طاوعته و مضيت إلى جهة السيد الثاني .. و تبعتها فدخلت المزار . في ذلك الوقت وجدتهما يقرءان شيئاً لم أتبينه . فبقيت واقفاً بمحاذاة الضريح صامتاً . لكني فوجئت إذ وقع نظري على كتيبة رأيتها في أطراف السقف . كانت ثمة كلمات من نور ! التفت إليّ الرجل الجليل المهيب و قال : كربلائي كاظم .. ما بالك لا تقرأ؟
قلت : يا سيد .. أنا لم أذهب إلى الملا. (1) لا أعرف القراءة و الكتابة .
فقال : و لكن عليك أن تقرأ . ثم دنا منـّي ، و وضع يده على صدري و ضغط عليه بقـوّة و قال : اقرأ الآن . قلت : ماذا أقرأ فقال : أقرأ هكذا :
(( بسم الله الرحمن الرحيم . إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرض يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً ، و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره ، ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين)
قرأت بقراءة هذا الرجل ، و قرأت بقرأءته أيضاً بعدها أ ٌخر. و كان ما يزال واضعاً يده على صدري .. حتى بلغت آخر الآية التاسعة و الخمسين ، حيث تختتم بهذه العبارة : ( أني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ).
عندها أردت أن أقول لهذا الرجل شيئاً ، فحولت وجهي إليه .. لكني لم أجد أحداً ، ولم أر أثراً لهذا الرجل الذي كان واضعاً يده على صدري إلى آخر لحظة . أما الكتيبة التي كانت في السقف .. فقد توارت كذلك .
لحظتها .. داخلني هول عجيب ، لم اشعر بعده بما جرى . إذ وقعت على الأرض فاقد الوعي.
كان الوقت مقارباً لطلوع الفجر لمّا أفقت . الفضاء ما يزال في ظلمته . لقد أنـُسيت
________________________
1- الملا : أي معلّم الصّبيان و يراد به في الاصطلاح : المكتب الذي كان الأولاد و البنات في الأجيال الماضية يتعلمون فيه مبادئ القراءة و الكتابة و قراءة القرآن الكريم . (المترجم)
2- سورة الأعراف : 54
تماماً ما كان حدث لي أمس . بقيت عدة دقائق كمن يستيقظ من النوم و لا يدري أين هو ! تطلعت حولي ، و أنا أحسّ بتعب شديد في بدني . وحين فطنت إلى أني كنت نائماً عند المزار أخذت أعنـّف نفسي و أوبـّخها : أما وراءك شغل و عمل ؟! ماذا تصنع هنا ؟!
و مهما يكن .. فقد نهضت و خرجت من المزار . ثم حملت العلف على كتفي . و في الطريق تنبهت إلى أني أعرف كلمات عربية كثيرة . و على حين غـّرة تذكرت ما حدث لي أمس ، و كيف كنت مع ذلك السيد الجليل المهيب .. فتملكني – مرة أخرى – فزع و رعب . و لكني مضيت هذه المرة حتى أنتهيت إلى البيت .
و في البيت طفق أهلي يعنـّفوني قائلين : أين كنت من أمس إلى الآن ؟! أين كنت في الليل ؟! و لكني لم أنطق بحرف ، و وضعت العلف أمام الأغنام . و حين طرّ الصباح حملت القمح إلى دار ذلك الرجل الفقير و سلمته أياه . ثم خففت مباشرة إلى إمام جماعة القرية الشيخ صابر الأراكي ، وقصصت عليه ما جرى لي من أوله إلى آخره . فقال لي امام الجماعة :اقرأ ما تعرف، فقرأت . فقال : هذه آيات قرآنية ! و ظل يختبر حفظي ساعات ، فكنت أجيب عن كل ما أراد . بعدها بدأ خبري يذيع شيئاً فشيئاً بين أهل القرية ، و أنا عاكف على عملي في الزراعة و تدبير شؤون المزرعة .. حتى كان يوم ذهبت فيه إلى قرية (شهاب) الواقعة قرب (ملاير) لانجاز عمل لي هناك . و في قرية (شهاب أبلغ أهاليها بخبري السيد اسماعيل العلوي البروجردي الذي كان من علماء (ملاير ) .. فجاء السيد اسماعيل لرؤيتي ، و اصطحبني – بعد الحاح منه و الحاف – إلى (ملاير) . وهناك حكى قضيتي بمحضر عدد شخصيات (ملاير ) ، فكانوا يختبروني في حفظ القرآن ، و قد تملكهم العجب . ثم كان رأي علماء (ملاير ) أن يشيعوا خبري في إيران كلها ، ليرى الناس كيف يمنّ الامام صاحب الزمان ( عليه السلام) على رجل أدّى واجباته باخلاص.
عـّرفوني- أول ما عـّرفوني – على آية الله العظمي السيد البروجردي .. فكان يمتحن حفظي مرات و مرات ، حتى أطمأن إلى أن امام العصر ( عليه السلام) قد جاد على حقاً بلطفه و منـّته .
و قابلت رجال الحوزة العلمية و كافة علماء قم الكبار ، فأقرّوا بهذه الحقيقة . ثم أخذني عدة من التجار ( وقد نسيت أسماءهم ) إلى النجف الأشرف و كربلاء المقدسة بهدف لقاء علمائها .. و صحبني في سفري هذه عدة أشخاص . و في النجف و كربلاء التقيت بالعلماء و المراجع هناك . و لا يحضرني الآن من أسمائهم غير اسم آية الله العظمى السيد الميلاني – الذي كان آنذاك في كربلاء .. و غير أسم آية الله العظمى السيد الحكيم في النجف ، فعاملوني بكثير من المودة . و كلـّهم قد أقر باعجاز الامام وليّ الأمر (أرواحنا فداه) و لمّا عدت إلى إيران .. أهتمّت بي جماعة (فدائيان اسلام)
و ها أنا ما أزال في قم أتحدث إليك . هذا هو مختصر قضيتي .
حكى لي كربلائي كاظم هذا كله .. فشكرت له ذلك . و كنت قد دونت قضيته إلى هذا الحد . و قد وفقت اليوم لأرويها للقــّراء الأعـّزاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق